رعاية الموهوبين لا تتطلب خططا أو استراتيجيات معقدة فى آلية الرعاية وأساليبها وطرائقها، وإنما تتطلب فى واقع الأمر وعيا بأهمية الموهوب، واستشعارا بالمسؤولية تجاهه، وقيام كل منا كأفراد ومؤسسات ومجتمع مدنى على وجه الخصوص بدوره تجاهه، تماما كما يحدث فى المجتمعات الواعية والبصيرة بنواميس النهوض، والتى من شأنها أن تصنع أولا بيئة الموهبة قبل أن تبحث عن الموهوبين، ومن ثم تجعل من رعاية أصحاب القدرات والمواهب فى شتى المجالات جزءاً من ثقافتها القومية، ورسالة يؤمن بها أفرادها، ومهمة يشترك فى أدائها مؤسساتها التربوية والسياسية والاجتماعية والإعلامية والاقتصادية. المجتمع كله يبحث فى قدرات أفراده المتنوعة ويعترف بها ويرعاها.
ولا يختلف اثنان فى هذا الصدد أن رعاية الموهوبين مسؤولية قومية كبرى، وقد لا يجادل من وهب بصيرة أن مدى التطور والتقدم الذى يمكن أن تعانقه أى أمة مرهون وبدرجة كبيرة بعقول فذة لأفراد أعدادهم قليلة نسبيا فى مجتمعاتهم، وليس أدل على ذلك من أمثلة "سقراط، ابن تيمية، ابن سينا، جابر بن حيان، أديسون، أينشتاين"، وغيرهم نماذج تتراقص فى مخيلة كثيرين عند الحديث عن فئة الموهوبين، فهم بحق صور متنوعة لمواهب خالدة، أثرت حضارة الإنسان، وأورثت علماً لا يزال العالم بأسره يستقى من معينه على اختلاف مشاربهم وقيمة إسهاماتهم، ومازالوا نجوماً ساطعة يستدل بعلومهم، ويؤثرون فى مجتمعات وعصور متعاقبة رغم غيابهم.
ولعل السر وراء استمرار وجود تلك الأسماء لامعة فى سماء الإنسانية حتى وقتنا الحالى إنهم كانوا يتمتعون بمواهب فذة بلا شك، ولا مراء فى ذلك أبداً، إلا أنها ليست من الفئة القليلة التى يجب أن يبحث عنها أى مجتمع ويرعاها، وإنما هى من نوادر المجتمعات الإنسانية وفلتات الأزمنة والعصور المتتالية، وهى أقل فئات الموهوبين حاجة إلى اكتشاف ورعاية، إذ لها القدرة على أن تضىء بمولدات داخلية، وأن تجد طريقها إلى القمم على مستوى مجتمعاتها فى معظم الأحايين بيسر وسهولة، والأهم من ذلك كله أن نسبة ظهور من يمتلك أمثال استعداداتهم العقلية والشخصية فى المجتمعات الإنسانية نسبة محدودة قد لا تتجاوز فى بعض التقديرات واحد من مليون.
وأمام هذا التحدى فى اكتشاف تلك المواهب التى تمثل جواهر نادرة فى ربوع المحروسة انطلق مؤخرا كيانٌ مصرى اسمه"F5" أسسه د. طارق عرابى مع مجموعة من أصدقائه من القامات العلمية والأخلاقية الذين يؤمنون بمواهب ونوابغ ومبدعى هذا الوطن على امتداده، ويوقنون أن رعايتهم وتدريبهم وتوفير فرص العمل لهم والعطاء لمجتمعاتهم قبل أن يكون عملاً تجارياً، هو واجبٌ وطني، لأجل استعادة الأمل فى نفوس كثير من الموهوبين من مختلف أقاليم مصر، ودفعهم للأمام وإخراج أفضل ما لديهم من أجل المساهمة الإيجابية فى بناء وطن يصلحُ للأحفاد ويفخر به كل مصرى داخل وخارج مصر.
وبمجرد أن طرح الدكتور طارق عرابى رؤية"F5" وخطتها الاستراتيجية المتكاملة لاكتشاف وتدريب وتشغيل المواهب والمتميزين فى شتى المجالات على بعضٍ من "المؤمنون" - هكذا يسميهم - بقدراتهم المتميزة من أصدقائه المقربين فى مجال الفن والإعلام والرياضة، وكذلك المحترفين فى مجال تكنولوجيا المعلومات وبث القنوات والمحطات الإذاعية على شبكة الإنترنت، رحبوا جميعاً وأشادوا بجدوى الفكرة والخطة، وأبدوا جميعاً رغبة صادقة لانضمامهم ومشاركتهم الفعالة فى تأسيس وتشغيل هذا الكيان الذى لايهدف إلى الربح المادى بقدر مايسعى جاهدا نحو تحقيق الأهداف التى تصبُ فى مصلحة الوطن والمواطن.
ولقد أصبح هذا الكيان يضم داخل بيته الطموح رجالاً ونساءً صدقوا وصدقن الله فى السعى لإعلاء القيم الإنسانية والأخلاقية والعلمية والفنية والرياضية، ويسعى هذا الفريق بالمقام الأول والأخير - كما لسمت عن قرب وعايشت التجربة من بدايتها حتى لحظة انطلاقها - إلى ترقية الوجدان والحس الفنى المسئول فى المواهب الفنية الجديدة بغرض الوصول إلى مرحلة تقديم فنٍ راقٍ فى الجوهر والمظهر لأبناء وبنات مصر، لكيلا تقع عيونهم على مشهدِ من مشاهد الخسةٍ الرخيصة، ولا تسمع آذانهم ذاكَ الكلام الخسيس، الذى طال فى الآونة الأخيرة أنشطة الفن والإعلام وأفقدهما القيمة والمصداقية.
وإلى جانب تطوير المواهب والمهارات والقدرات المتميزة فى كل مجال، تتبنى خطة "المؤمنون" من أصحاب هذا الكيان لأبنائهم من المواهب والمتميزين فى شتى المجالات برامج للتنمية البشرية وتطوير الفكر والمفاهيم بوجه عام، إيماناً منا بأن الموهبة والنبوغ والتميز لن يفيدوا الوطن إلا إذا كان لدى صاحب هذه الموهبة أو ذاك النبوغ والتميز عقلية قادرة على حسن التفكير والتمييز بين الطيب والخبيث من خلال شخصية قوية لديها حس المسئولية تجاه الذات والأسرة والمجتمع والوطن.
وبنظرة خاطفة إلى هذه الفكرة النابعة من إيمان عميق بقدرات أبناء شعب مصر من الشباب الواعد فى شتى مجالات الحياة، قد يتبادر إلى الأذهان أن مسؤولية النهوض بالمجتمعات إنما تقع على عواتق ظاهرة نادرة الحدوث، لكن الحق الذى لا مراء فيه أن نوعيات بشرية كتلك التى تملك من المواهب والقدرات جديرة أن تجعل من أمتها أمة عظيمة فى مجال ما أو أكثر بإذن االله جل وعلا، لكن المجتمعات التى يهمها أمر حضارتها وتتطلع إلى أن ترتقى فى معارج التطور والرفعة والسيادة فى شتى المجالات، لا يمكن أن تنتظر معجزة أو تغيير جذرى فى قوانين الطبيعة التى خلقها االله عز وجل، لينبثق منها العشرات أو المئات من تلك الفئة النادرة ليغيروا حالها بين عشية وضحاها، ويجعلوا منها أمة عظمية فى فترة وجيزة.
والحقيقة العلمية المؤكدة إنه ليس النوادر فقط هم من يصنعون الحضارة، وليسوا أولئك فقط من يستحق أن تشرئب لهم الأعناق، وتعقد عليهم الأمنيات، هناك نسبة فى كل مجتمع تصل فى بعض التقديرات العلمية إلى 15% - أى مايعادل 15 مليون مصرى تقريبا - لديها من الاستعدادات العقلية ما يؤهلها فيما لو وجدت الرعاية المناسبة أن تقود مجتمعاتها إلى مصاف التقدم والمنافسة فى شتى المجالات، بل وتشير بعض الدراسات العلمية كدراسة تايلر (1988) - وهو واحدا من قادة الفكر فى حركة الكفاءة، وأفكاره تعتبر عالمياً شديدة التأثير فى الحقبة التقدمية - أنه فى حال النظر إلى التميز على اعتبار المجالات العلمية والشخصية وليس الاستعدادات العقلية فحسب، فإن النسبة قد تصل إلى سبعين فى المائة (70%) إذ لكل إنسان مجالات تميز إذا ما أُحسن التعرف عليها وتعزيزها بأساليب مناسبة يمكن أن يجنى منها ثماراً يانعة نافعة تسهم فى مجموعها فى النهضة الشاملة.
ومما لاشك فيه أن العمل المنظم والمتتابع بأساليب علمية موثقة مع المواهب المتوافرة بنسب لا بأس بها من بين فئات المجتمع استثمار مضمون الأرباح لحاضر الأمة ومستقبلها، ولعل تقديم الرعاية المناسبة فى وقت مبكر يسهم بلا شك فى بروز صفوة من الفنانين والعلماء والمفكرين والمخترعين، وجدير بنا أن نتنبه إلى أن مهمة رعاية تلك الفئة ليست وظيفة جهة أو إدارة أو مؤسسة فحسب، بل هى رسالة أمة، ومهمة مجتمع بأسره، لذا كان لزاماً أن تحتضن مؤسسات التربية العليا فى الأمة هذه الرسالة لتجعل منها ثقافة مجتمعية وممارسة تربوية عند إعداد النشء ليتبوءوا مقاعدهم القيادية فى بناء المجتمع وصنع حضارته، وذلك عبر مبادرات كتلك التى قامت بها "F5"، وذلك انطلاقا من أن العناية بالموهبة جزء مهم لا يمكن تجزئته عن وظيفة المدرسة التربوية، بل أن العناية بمواهب الطلبة وقدراتهم من أسمى وظائف المدرسة وهو الأمر الذى يستدعى تكاتف وتعاون من جميع أعضاء المدرسة لإنجاح هذه المهمة، تلك هى القناعة التى حملت الدكتور طارق عرابى مع فريق "المؤمنون" إلى تبنى فكرة تأهيل كوادر وطنية قادرة على توفير كوادر علمية متخصصة لتدريب وتنشئة تلك المواهب المتنوعة ووضعهم فى البيئة المناسبة لاستخراج ما لديهم مت طاقة مبدعة وخلاقة فى شتى المجالات.
وربما كان انطلاق هذا الكيان الجديد من قاعدة إنه أثبتت مجموعة من الدراسات العلمية أن الأطفال الموهوبين يتعلمون بطريقة مختلفة، وأن حاجاتهم وخاصة الأكاديمية والعلمية منها لا يتم تلبيتها بالصورة المناسبة، وهو الأمر الذى يفقدهم متعة التعلم، والتى هى بالضرورة تبرز مواهبهم الخلاقة المبدعة، وبالتالى يفقد المجتمع فرص الإفادة من قدراتهم، كما أن هذه الفئة الخاصة من الطلبة غالبا ما تعانى من عدم توافق ما يقدم لها فى مدارس التعليم العام مع استعداداتها العقلية المنطقية منها والإبداعية مما يكون له الأثر البالغ فى ضمور مواهبهم أو انحرافها، ومن هذا المنطلق أظهرت نتائج مجموعة كافية ومقنعة من الدراسات العلمية أن هناك حاجة ملحة إلى توفير برامج خاصة للموهوبين تتحدى قدراتهم وتستجيب لاحتياجاتهم.
لقد آمن فريق "F5" أن المولى عز وجل قد منح بعضا منا هبة عقلية أو جسمية يتميز بها أفراد محدودون قادرون بفضل هذه الموهبة على تحقيق النجاحات المناسبة لقدراتهم دون مساعدة، إلا أن الموهبة عقلية كانت أم جسمية بحاجة إلى رعاية واهتمام خاص ليتم استثمارها بصورة صحيحة إلى أقصى درجة ممكنة، فوجود قدرات عالية فى مجال بعينة لا يكفى لتحقيق التميز، بل لابد من وجود قدرات إبداعية يمكن تطويرها من خلال برامج تنمية التفكير والإبداع، ومن ثم كان الرقى إلى مرحلة تقديم رعاية خاصة وموجهة لتنمية المواهب هو أمر ضرورى وحتمى فى هذه المرحلة الفاصلة من تاريخ أمة تعيش على حافة الخطر، ولهذا قرروا اتخاذ خطوة مهمة وقفزة واثقة، ولذا فقد كان من المهم تكوين برامج احترافية مدعومة بخبرات معرفية ومهنية تتعلق بسبل التعرف على الموهوبين ورعايتهم بصفة مستمرة ومتتابعة، دون أية تكلفة مادية، وقد وضعوا صوب أعينهم أن الاستثمار فى العنصر البشرى ذو القدرات العالية هو الوسيلة الأفضل نحو التخلص من كافة الأمراض المزمنة التى عطلت التنمية الحقيقية التى ننشدها جميعا فى مصرنا الغالية، فضلا عن إيمان عميق بأن المجتمع المدنى لابد أن يكون له دورا فاعلا جنبا إلى جنب مع الدولة المصرية ممثلة فى حكومتها ورئيسها فى النهوض بحياة أبناء شعب أعيته حرب الإرهاب الحالية، إضافة المؤامرات الداخلية والخارجية التى تستهدف مقدراته ومصيره يوميا وبلا رحمة.