يبقى صلاح عيسى علامة من علامات الصحافة والتاريخ والثقافة والمعرفة، ليس فقط بما قدمه من كتب ومقالات، لكن أيضا لكونه كان معلمًا لأجيال متتالية من الصحفيين.. صلاح عيسى أسطى فى مهنة الصحافة، يعمل بيديه ويأخذ بيد الصحفيين ويقدم لهم الفكرة أو المصادر والتحليل.. ولكل زميل قصص مع الأستاذ صلاح عيسى، من أجيال وثقافات واتجاهات مختلفة.. وكثيرا ماكان يسارع بتقديم النصح لصحفى أو صحيفة، ويكتب تشجيعا لصحف ومطبوعات، بالإضافة لذلك امتلك شجاعة فى إعلان رأيه، مستعدا لدفع الثمن، فالحقيقة لديه أهم من إرضاء أو إغضاب أشخاص.
كانت تجربة «الأهالى» أحد أهم التجارب الصحفية من نهاية السبعينيات حتى مابعد منتصف الثمانينيات من القرن العشرين..وضمت كوكبة من ألمع نجوم السياسة عموما واليسار على وجه الخصوص.. وقدم صلاح عيسى زاويته المهمة «الإهبارية»، التى كانت درسا فى الحوار والنقد الاجتماعى والسياسى مع السخرية العميقة وخفة الدم والاحترام وعدم استخدام أى ألفاظ خارجة.. وأتذكر أنه كان يتحدث عن كاتب كبير من أبرز خصومه، الذين كان يخوض ضدهم معارك، كان يقول «الأستاذ فلان»، فيعترض أحدهم: لكنه كان خصما لك. فيرد: الاختلاف لايمنع الاحترام.. وكان دائما ما يؤكد: «تعرف أنك أصبحت ديمقراطى بجد لما تبطل تزعل من اختلاف الآخرين مع آرائك»، لهذا كثيرا ماكان يخوص مناقشات مع مختلفين معه وهو مبتسم.. يقدم منطقه وأسانيده بشكل منظم.. سواء كتابة أو حديثًا.
أسس صلاح عيسى كتاب «الأهالى» وهو سلسلة شهرية ترأس تحريره وقدم مختارات مهمة من كتب عربية ومترجمة، من أبرزها مذكرات محمد إبراهيم كامل، وزير الخارجية، الذى استقال بعد اتفاقية السلام، وكانت بعنوان «السلام الضائع»، بالإضافة «حدث فى كامب ديفيد»، ترجمه المثقف الراحل إبراهيم منصور، ومذكرات الوزير محمد عبدالسلام الزيات عن الفترة التى قضاها مع الرئيس الراحل أنور السادات، وكانت هذه الكتب قاعدة معرفية مهمة، بأسعار زهيدة، فضلا عن مجلة «أدب ونقد».
أسهم فى إنشاء العديد من المنابر السياسية والثقافية أشهرها جريدة «القاهرة»، وسلاسل أدبية، كما كان مدافعا دائما عن حرية الصحافة، ولعب دورا مهما أثناء عضويته بمجلس النقابة فى كل تحرك للصحفيين من أجل حرية الصحافة.. فى عمله ومواقفه حرص دومًا على الدقة والتوثيق، ولم يتنازل عن هذه المبادئ حتى وهو يواجه خصومًا يختلف معهم فيما يتعلق بالثقافة، كان صلاح عيسى يؤكد دعوته إلى «وحدة المثقفين وليس وحدة الثقافة».
منذ أصدر كتابه عن الثورة العرابية، قدم التاريخ بانعكاسات معاصرة، «هوامش المقريزى حكايات من مصر»، وفى جلاد دنشواى، مصرع مأمور البدارى، وحكايات ريا وسكينة، دراما أدبية تاريخية بصوت التاريخ ورائحته وأجوائه.
وفى كتابه «تباريح جريح» يصك صلاح عيسى «فى هذه التباريح شيئًا من السياسة.. وبعضًا من الفكر ونماذج من البشر.. وشظايا من الذكريات ونتف من القهقهات وسحابات من الدموع والأوجاع معظمها ما يضحك حتى تطرق الدموع أبواب العين ويبكى حتى يذوق اللسان ملوحة الدمع»، وفى مقدمة كتابه «حكايات من دفتر الوطن»، أحد أهم كتب صلاح عيسى، سجل فى مقدمته درسًا فى التأريخ يقول: وليس لدى وأنا أقدم الكتاب إلا أن أؤكد أن الحكايات ليس فيها سطر واحد من الخيال أو عبارة واحدة لا تستند إلى مرجع أو مصدر، سواء كان وثيقة أو صحيفة أو مذكرات أو دراسات أو أبحاثًا، فهو تاريخ يخضع لكل شروط حرفة التأريخ، حتى أننى كنت أبحث أيامًا عن حالة الجو فى يوم وقوع الحادث أو عن وصف أحد أبطالى، والواقع أننى كنت شاهدًا على هذا الأمر فى منتصف التسعينيات كنت أتردد على دار الكتب لبحث وتوثيق وقائع، لزوم موضوعات تعلقت بالتأريخ، وكنت أذهب فى العاشرة صباحا حتى الرابعة عصرا، موعد الإغلاق، ومن حسن حظى أننى كنت ألتقى باثنين من كبار أساتذتنا الأستاذ صلاح عيسى، والكاتب الراحل الكبير محمد عودة، كلاهما كان يأتى مبكرا ويبقى حتى نهاية اليوم، وسط الدوريات والأوراق، رأينا الدقة والصبر والتوثيق دروسًا مجانية فى المهنة والكتابة.
مرات كنت أرى الأستاذ صلاح عيسى منكبًا على الدوريات يفتش عن تاريخ أو واقعة، يقلب عشرات الدوريات بدأب وصبر ليسجل فى مذكرته تواريخ أو ملاحظات، كان وقتها يعمل فى حكايات ريا وسكينة، وشخصيات لها العجب، وكان يعمل بصبر وتركيز، وكنت أمر لأسلم عليه ونتبادل حوارًا قصيرًا قبل أن يتركنى ليغرق فى عمله.. كان يقول إنه يقضى يوما كاملا فى تأكيد أو نفى معلومة، يستخدم مناهج التاريخ ومناهج المنطق، للربط بين الوقائع والأحداث.. وكان هذا كله درسًا مباشرًا من الأستاذ صلاح عيسى، لهذا فهو بالفعل معلم من معلمى وأسطوات المهنة، وكاتب جمع بين العمق والشعبية والسخرية والتباريح الموجعة.. ويبقى دائمًا من منارات الصحافة والفكر.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة