استطاعت مصر أن تحدث نقلة نوعية فى مفاوضات سد النهضة بطرحها مقترح إدخال البنك الدولى كطرف محايد ليكون له رأى فاصل فى أعمال اللجنة الفنية الثلاثية التى تضم ممثلين عن مصر وإثيوبيا والسودان، وجاء اختيار البنك لما يتمتع به من خبرات فنية واسعة، ورأى فنى يمكن أن يكون ميسرا للتوصل إلى اتفاق داخل أعمال اللجنة الثلاثية.
كما أن البنك الدولى يعد أكبر جهة مانحة يمكن أن تستفيد منه الدول الثلاثة فى مشروعات التنمية المشتركة المقترحة التى سيتم الاتفاق عليها مستقبلاً، خاصة أن البنك يتميز بالحيادية بقواعد الإقراض والتمويل لمثل هذه النوعية من المشروعات، حيث يشترط الاتفاق بين الدول المتشاطئة لتقديم أى دعم فنى أو مادى.
أمر آخر فى مسألة طرح القاهرة للبنك الدولى كطرف محايد، يرتبط بأن الدول الثلاثة لها علاقات معه وتعاملات ويحظى بثقة هذه الدول، ولديه من الإمكانيات ما تؤهله للاستعانة بخبراء فنيين على درجة عالية من الكفاءة يكون لهم القول الفصل فى أى خلاف فى الرؤى بين الدول الثلاثة حول الدراسات الفنية، وهو ما يساعد فى توفير جو من الثقة نحن فى أشد الحاجة لها فى الوقت الراهن، بعد الشد والجذب الذى شهدته الاجتماعات الفنية طيلة الشهور الماضية التى انتهت إلى لا شىء، لذلك طرحت القاهرة فكرتها هذه كمرحلة جديدة من التعامل مع هذا الملف الملىء بالتعقيدات الفنية والسياسية.
فوفقا لقواعد القانون الدولى للمياه العابرة للحدود، يشترط التفاوض المباشر أولا ثم الوساطة للوصول إلى توافق، وهو الطريق الذى تسير فيه القاهرة حالياً التى تتعامل بشفافية شديدة فى هذا الملف، وتحاول بشتى الطرق تجنب أى صدام، لذلك طرحت هذه الفكرة ليكون رأيه فاصلا، سواء للدول الثلاثة أو حتى حال قررت مصر اللجوء إلى الأمم المتحدة والاتحاد الأفريقى والمنظمات الأخرى المعنية حال فشل هذه المرحلة.
لذلك يمكن القول إن الاقتراح الذى قدمته مصر عبر وزير خارجيتها، سامح شكرى، وسلمه لنظيره الإثيوبى «وركنا جيبيو»، وشرحه أيضاً خلال لقائه مع رئيس وزراء إثيوبيا هيلا ماريام ديسالين، جاء فى إطار التحركات الدبلوماسية الواعية التى تقودها الدولة المصرية فى ملف السد، آخذاً فى الاعتبار الرصيد المهم للبنك ليس فقط لدى الدول الثلاثة، وإنما لدى كل دول حوض النيل، فالبنك كان طرفا رئيسيا فى إنشاء مبادرة حوض النيل التى أطلقتها مصر عام 1999 وتم خلالها دراسة العديد من مشروعات الرؤية المشتركة على مستوى النيلين الشرقى والجنوبى لتنمية موارد النهر لصالح الشعوب خاصة فيما يتعلق بإنشاء السدود والخزانات بأعالى النيل.
كما أن البنك الدولى ليس ببعيد عن الجدل الدبلوماسى والفنى حول موضوع السد، خاصة أن المكتب الفنى لدول النيل الشرقى «الإنترو»، التابع لمبادرة حوض النيل كان قد تقدم قبل إعلان مصر تجميد مشاركتها فى أنشطة المبادرة، عقب التوقيع المنفرد من عدد من دول الحوض على الاتفاقية الإطارية «عنتيبى»، بطلب للبنك الدولى لدراسة مشروع إنشاء سد متعدد الأغراض أطلق عليه مسمى «سد الحدود»، وحدد مواصفاته بأن تكون سعته التخزينية 14 مليار متر مكعب، وحدد المكتب المكان المقترح، وهو المكان الذى اختارته أديس أبابا لإقامة سد النهضة.
لكن الفارق كبير بين الاثنين، فالنهضة يحقق فقط مصالح إثيوبيا ويضر بدولتى المصب، فيما كان مقترح «سد الحدود» يحقق مكاسب للدول الثلاثة «مصر والسودان وإثيوبيا»، لكن لم تنتظر أديس أبابا وشرعت فى بناء سد النهضة بالشكل الذى عليه الآن.
نحن الآن فى انتظار الرد الإثيوبى والسودانى أيضاً على ما قدمته مصر من مقترح يزيل القلق الذى سيطر على مصر من التعثر الذى يواجه المسار الفنى المتمثل فى أعمال اللجنة الفنية الثلاثية، خاصة أن استمرار حالة عجز اللجنة عن التوصل لاتفاق حول التقرير الاستهلالى المُعد من جانب المكتب الاستشارى، من شأنه أن يعطل بشكل مقلق استكمال الدراسات المطلوبة عن تأثير السد على دولتى المصب فى الإطار الزمنى المنصوص عليه فى اتفاق المبادئ، وهو ما لا تقبله مصر التى تعاملت بمرونة مع التقرير الاستهلالى ووافقت عليه دون تحفظات، اقتناعا منها بأن الدراسات ذات طبيعة فنية ولا تحتمل التأويل أو التسييس، بالإضافة إلى ثقة مصر فى حرفية وحيادية المكتب الاستشارى الذى اختارته إثيوبيا من البداية، وفقاً لما تم الإشارة إلى هذا الأمر فى الاتفاق الإطارى لإعلان المبادئ الموقع فى مارس 2015 الذى كان واضحا فى تأكيده على محورية استكمال الدراسات قبل بدء ملء السد وفقا للمادة الخامسة من الاتفاق، بل إنه ينص على ضرورة اتفاق الدول الثلاث على قواعد ملء السد وأسلوب تشغيله.
ننتظر الآن رد السودان وإثيوبيا ولا نتوقع رفضهما، لأن الرفض يعنى مزيدا من المماطلة، ويعنى أيضاً نية مبيته للإضرار بمصالح مصر المائية، ومن ناحية أخرى عدم اعتراف من الجانبين بحيادية ونزاهة البنك الدولى، وهو أمر ربما يكون له تداعيات مستقبلية على علاقة الدولتين مع البنك الدولى.