مجددا عادت الولايات الأمريكية إلى التلويح بقطع مساعداتها عن عدد من دول العالم، وذلك قبيل ساعات من انطلاق التصويت بالأمم المتحدة فى الجلسة الطارئة للجمعية العامة للمنظمة الدولية، والتى عقدت نهاية الأسبوع الماضى، ودعت إليها دول عربية وإسلامية – على رأسها مصر - لاتخاذ موقف دولى إزاء القرار الأمريكى المثير للجدل بنقل سفارة واشنطن فى "إسرائيل" إلى القدس والاعتراف بها عاصمة للكيان، ووجه الرئيس الأمريكى دونالد ترامب تهديدات بقطع المعونات عن الدول التى تصوت ضد بلاده فى الأمم المتحدة، وقال فى مؤتمر صحفى قبل ساعات من انطلاق التصويت داخل المنظمة الدولية : «إنهم يتلقون مئات الملايين من الدولارات ومن ثم يصوتون ضدنا .. حسنا، سنقوم بمراقبة تلك الأصوات، فليصوتوا ضدنا، ونحن سنوفر الكثير .. هذا لا يهمنا ".
ولأن مصر فى مقدمة الدول التى قادت جهود استصدار موقف دولى ضد قرار ترامب حول القدس، ونجحت فى هزيمة واشنطن فى ساحة المنظمة الدولية بتصويت 128 دولة لصالح رفض قرار ترامب بشأن القدس، فإنه بدا واضحا أن حديث المساعدات يطالها، وأن أى قرار أمريكى فى هذا الشأن لن تكون القاهرة بعيدة عنه، ليتجدد حديث تحول إلى حدث "شبه موسمى " فى السنوات الأخيرة عن المعونة الأمريكية لمصر، بعد أن توالت قرارات صادرة من البيت الأبيض بتخفيض أجزاء من تلك المعونات، ولم يختلف الأمر فى هذا الشأن فى عهد ترامب عنه فى عهد سلفه أوباما، على الرغم مما بدا من علاقات ودية أظهرها الرئيس الحالى تجاه القاهرة، منذ خوضه سباق الرئاسة، وحتى بعد وصوله لحكم البيت الأبيض.
وللابتزاز الأمريكى للقاهرة بورقة المعونة تاريخ طويل، فعلى الرغم من اعتقاد كثيرين أن تلك المعونات بدأت بمعاهدة السلام بين مصر والكيان الصهيونى التى عقدها الرئيس الراحل أنور السادات مع الإسرائيليين برعاية أمريكية، إلا أن الثابت تاريخيا أن هذه المعونات بدأت بشحنات من القمح تلقتها حكومة الثورة المصرية فى العام 1953، فى إطار مشروع النقطة الرابعة الذى أعلنه الرئيس الأمريكى الأسبق هارى ترومان كإطار لبرنامج للمعونات والموجه من الولايات المتحدة إلى الدول النامية، وذلك فى سياق التنافس بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتى، وذلك فى إطار مساعى بدأتها واشنطن حينذاك لاستقطاب ثوار يوليو، وهى مساعى سرعان ما اصطدمت بقرارات وسياسات قائد الثورة جمال عبد الناصر، والتى جاءت جميعها معادية للاستعمار والإمبريالية، لتبدأ واشنطن سلسلة طويلة من القرارات التى صدرت تارة بتجميد معوناتها الاقتصادية لمصر، فى محاولة لوقف قطار المشروعات التنموية والقومية الذى أطلقه عبد الناصر، وسعيه لتنويع مصادر التسليح لمصر أو دعمه للحركات التحررية فى بلاد العالم الثالث.
فى العام 1979 ومع توقيع الرئيس الأسبق أنور السادات اتفاقية «كامب ديفيد» مع تل أبيب، تحولت المعونات الأمريكية بشقيها العسكرى والاقتصادى إلى نوع من الضمانات الأمريكية للاتفاق بين القاهرة وتل أبيب، وأعلن الرئيس الأمريكى فى ذلك الوقت جيمى كارتر، تقديم معونة اقتصادية وأخرى عسكرية سنوية لكل من مصر وإسرائيل، تحولت منذ عام 1982 إلى منح لا ترد بواقع 3 مليارات دولار لإسرائيل، و2.1 مليار دولار لمصر، منها 815 مليون دولار معونة اقتصادية، و1.3 مليار دولار معونة عسكرية، لتمثل المعونات الأمريكية لمصر %57 من إجمالى ما تحصل عليه من معونات ومنح دولية، من الاتحاد الأوروبى واليابان وغيرهما من الدول .
وبعد ثورة يناير 2011 ، وإثارة قضية التمويل الأجنبى لمنظمات المجتمع المدنى وتوجيه الاتهامات لحقوقيين بينهم أمريكيون بالإضرار بالأمن القومى المصرى وإغلاق مكاتب لمنظمات حقوقية أمريكية فى مصر، عادت واشنطن مجددا للتلويح بقطع المساعدات، وبدأت سلسلة من التخفيضات فى قيمتها فى عهد الرئيس الأسبق أوباما، وواصلت إدارة الرئيس الحالى ترامب قرارات المعونة، وقررت تخفيض المعونة لمصر بواقع 95.7 مليون دولار كمساعدات، وتأجيل 195 مليون دولار، بدعوى عدم إحراز تقدم فى مجال احترام حقوق الإنسان ومبادئ الديمقراطية ، ليأتى حديث ترامب الأخير ويحول بوصلة العقاب ضد القاهرة من مزاعم اضطهاد العمل الأهلى وغياب الإجراءات الديمقراطية، إلى عقاب يحمل طابعا سياسيا واضحا يتعلق بقيادة القاهرة الجهود العربية والإسلامية الداعمة لعروبة القدس والرافضة لقرار ترامب بتغيير هوية المدينة المقدسة والاعتراف بها عاصمة ل"اسرائيل "، وليصبح واجبا البحث عن بدائل للمعونات الأمريكية التى تعتبرها واشنطن سيفا مسلطا على رقبة القاهرة، كما يصبح واجبا على البلاد العربية مجتمعة أن تتصدى لهذا الابتزاز وأن تحمى قرارها الداعم لعروبة القدس.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة