تقول الإحصائيات إن نحو 300 ألف إنسان مسلم قتلوا فى البوسنة والهرسك فى تسعينيات القرن الماضى، وإن 60 ألف امرأة تم اغتصابها، وإن نصف مليون إنسان تم تهجيرهم من أرضهم، كما شهدت منطقة «سربرنيتشا» وحدها مجزرة راح ضحيتها 800 ألف إنسان على يد الصرب، بينما الكتيبة الهولندية المكلفة بحماية المنطقة كانت تشاهد ما يحدث فقط.
تذكرت كل ذلك وأكثر مع الخبر الذى تبادلته وكالات الأنباء عن انتحار القائد العسكرى الكرواتى السابق، السفاح سلوبودان برالياك، وهو يحاكم فى محكمة العدل الدولية بمدينة لاهاى الهولندية، بتهم جرائم حرب وتطهير عرقى وإبادة جماعية بحق المسلمين فى البوسنة والهرسك، وتذكرت معه الأسئلة التى كنت أفكر فيها فى منتصف التسعينيات وما بعدها.. كيف لإنسان مهما اسودت روحه وتوحشت يمكن أن يفعل ذلك؟ كيف تصل القسوة بقلب أحدنا إلى ذلك الحد من الشر؟ وما الفكر أو الدين الذى يأمرك بإهلاك الحرث والنسل وإبادة الآخر؟
مات سلوبودان برالياك غير مأسوف عليه، لكننى كنت أريد أن أسأله قبل أن يفكر فى الانتحار: ألم تطاردك صور أطفال البوسنة طوال السنوات التى مرت، هل كنت تعرف النوم، هل رأيتهم فى لحظة موتك، وهل طاردك شبح امرأة قُتل زوجها وضاع أطفالها قبل اغتصابها؟
كنت أريد أن أسأله: كيف جاءتك الجرأة لإنكار ما اقترفت حتى فى اللحظة الأخيرة، وصرخت «أنا لست مجرم حرب، وأرفض التهم»، ولم تشأ أن تطهر نفسك حتى بالاعتراف؟
كنت أريد أن أسأله، بعدما تجرع السم: هل أحسست بالألم الذى شعرت به النساء البوسنيات عندما كن يضعن حدًا لحياتهن الكئيبة؟ هل شعرت بأنك لا شىء، وأن الموت هو الطريق الوحيد الواضح أمام عينيك؟
يظل ذلك السفاح الذى بلغ من العمر 72 عامًا عند موته مثيرًا للجدل، فبجانب كونه جنرالًا سابقًا فى الجيش الكرواتى، كان أيضًا كاتبًا ومهندسًا ورجل أعمال ومخرج أفلام، فكيف اجتمع له كل هذا وفى الوقت نفسه ارتكب مذابح وجرائم تطهير عرقى وإبادة جماعية بحق مسلمى البوسنة المسالمين والعزل من السلاح، أى شيطان تلبسه حينها، وكيف كانت روحه تستقر فى قاع الجحيم منذ ذلك الوقت وربما أبعد؟
ليذهب سلوبودان برالياك إلى الجحيم، وليلحق به الآخرون، فهم مجرد حروف سوداء لا معنى لها غير إثارة الألم فى النفس، ولينتبه العالم حتى لا تحدث كوارث أخرى مشابهة.
وبعيدًا عن سلوبودان برالياك فإننا لن نستطيع أبدًا أن ننسى ما حدث فى تلك المنطقة من العالم، التى فقدت إنسانيتها، وتحولت إلى فيلم رعب عالمى، وصار العالم يعيش سنوات عصيبة كان نتيجتها وجود ذلك الاحتقان العالمى الذى نعانى منه حاليًا، حيث كان موقف الغرب متخاذلًا إلى أقصى الحدود، لأنهم اعتبروا الأمر مجرد حرب أهلية، بينما مجلس الأمن أرسل حمايات لا فائدة منها، بل كانت أحيانًا جزءًا من الكارثة، وبالتالى تغافل الجميع عن الجانب الضعيف وتركوه ينزف حتى الموت.