نواصل، اليوم، نشر الحلقة السادسة من السيرة الذاتية للكاتب الكبير محمد سلماوى، والتى أطلق عليها "يومًا أو بعض يوم" الصادرة عن دار الكرمة للنشر والتوزيع، والتى سيوقع نسختها يوم الثلاثاء فى تمام السادسة مساء، بمجمعة الفنون "قصر عائشة فهمى"، بالزمالك، وكشف الكاتب الكبير فى الحلقة الخامسة عن المشاجرات بين الشيوعيين والناصريين داخل السجن، وسبب سؤال أين أيام الواحات حين كنا ننتهك كل ليلة؟، وأفصح عن كواليس كلمة السر "أخويا الأستاذ بدر".
ويواصل محمد سلماوى..
كانت نازلى قد أحضرت لى أثناء الزيارة بعض الصحف المصرية والأجنبية، وفى ذلك اليوم سعدنا أنا والزملاء بعد أن أغلق علينا باب الزنزانة بقراءة صحف الأيام القليلة الماضية التى أحضرتها لى نازلى، والتى استوقفت الضابط أثناء الزيارة بسبب كثرتها فقال: "كل دى جرايد؟!" وأخذ يقلبها لشكه أن يكون وسطها مطبوعات أخرى.
كان من بين ما توقفت عنده فيما قرأناه مقال لعلى حمدى الجمال رئيس تحرير "الأهرام" ندد فيه بما حدث مرددا ما قالته الحكومة من أنها مؤامرة مدبرة، ثم قال: "فلقد أبرزت تلك الأحداث تيارات واتجاهات كنا فى حاجة إلى أن تظهر على السطح ليسهل القضاء عليها"، وتعجبت من مثل هذه المقولة، هل الدولة كانت فى حاجة إلى مثل هذه الاضطرابات التى هددت بسقوط النظام حتى تعرف بوجود اتجاهات سياسية معارضة؟ أليست مهمة الأجهزة الأمنية بالدولة متابعة ورصد نشاط جميع التيارات والاتجاهات القائمة فى المجتمع، سواء كانت شيوعية أو ناصرية أو غير ذلك؟ وكيف يكون هدف الدولة هو القضاء على الاتجاهات السياسية القائمة فى المجتمع؟
ولم يكن رئيس تحرير "الأهرام" يعرف آنذاك أن الحكومة بعد بضعة أشهر ستتخلى عن نظرية المؤامرة هذه، وأنه هو نفسه سيكتب بعد ذلك مؤكدا أن أحداث يناير كانت عفوية، وملقيا اللوم هذه المرة على حكم عبد الناصر(!) حيث كتب يقول يوم فى ٢٩ أبريل: "يقينى أن ما حدث فى ١٨ و١٩ يناير الماضى هو ردة فعل متأخرة لكل ما عانته الجماهير نتيجة إفلاس التطبيق الاشتراكى الخاطئ".
وكان مما توقفت عنده أيضا ما ورد ببيان الداخلية من أن عدد المقبوض عليهم ١٢٥٠ شخصا منهم ٢٠٠ من الماركسيين على حد زعم الداخلية، ولا يوجد من بينهم إخوان مسلمين، وكان أحد الضباط وهو عبد الحميد الدرى الذى كنت أعرفه من قبل دخولى السجن قد أخبرنى فى الأيام الأولى لى بسجن الاستئناف أن عدد المقبوض عليم وقتها كان قد تخطى الألفين، واذا كان عدد الماركسيين ٢٠٠ فلماذا هذه الضجة حول المؤمرة الشيوعية بينما عدد الشيوعيين لم يتجاوز ١٠٪ من المقبوض عليهم؟ ولماذا ذلك الحرص على تبرئة ساحة الإخوان والتأكيد على أنه لم يتم القبض عليهم؟
وقد ورد بالصفحة الثالثة من "الأهرام" موضوعا بعنوان "النائب العام فى لقاء مع "الأهرام": الحبس المطلق لكل المتهمين حتى انتهاء التحقيق"، وقد أقلقنا جميعا.
غلاف الكتاب
أما جريدة الجمهورية فكان موضوعها الرئيسى يحمل هذه العناوين:
هدأت الحالة تماماً
الحزب الشيوعى العمالى وراء عمليات التخريب
القبض على قيادات الحزب
ضبط مخازن للمنشورات ومطابع سرية
خطة الحزب: حرق القاهرة
وقالت الجريدة على لسان وزير الداخلية، أن هذه أول مرة فى مصر تستمر فيها المظاهرات حتى الثالثة صباحا لإرهاق رجال الأمن فلا يستطيعون أن يقوموا بعملهم فى الصباح التالى.
وجاء بالموضوع أنه "تبين من التحقيقات الأولية أن بعض الصحفيين شوهدوا فى أماكن تجمع المظاهرات وكانوا يحرضون المتظاهرين.. وهؤلاء الصحفيون أعضاء فى حزب اليسار.. وقد قبض عليهم.. وهم:
١ - حسين عبد الرازق المحرر بالأخبار
٢ - محمد سلماوى المحرر بالأهرام
٣ - فيليب جلاب ويوسف عبده صبرى المحرران بروزا اليوسف
٤ - ويجرى الآن البحث عن صلاح عيسى المحرر بالجمهورية
ومعظم هؤلاء الصحفيين من الشيوعيين السابقين.
وعرفت أن الدكتور رفعت السعيد من "اليسار" توجه إلى المنصورة وعقد اجتماعا مع قيادات الحزب وبعد هذا الاجتماع انطلقت المظاهرات.
وأما جريدة "الأخبار" فجاء بعناوينها:
طوائف الشعب تستنكر حوادث التخريب وتدين المخربين
وتساءلنا جميعا هل هناك فى مصر شعب آخر غير ذلك الذى خرج فى الشوارع؟!
محمد سلماوى فى قفص الاتهام بالمحكمة أثناء نظر تظلم المعتقلين فى انتفاضة يناير ١٩٧٧
كما نشرت "الأخبار" خبرا بصدر صفحتها الأولى يقول:
اتحاد الكتاب يعلن: حوادث الشغب محاولة فاشلة لإجهاض الحرية، قالت فيه إن مكتب اتحاد كتاب مصر الذى يرأسه توفيق الحكيم ويضم يوسف السباعى وثروت أباظة وسعد الدين وهبة أصدر بيانا أعلن فيه أن الذى حدث فى مصر فى اليومين الماضيين يعد نوعا من غدر المتآمرين على مصر ومحاولة فاشلة لإجهاض الحرية والديمقراطية، وقال بيان الكتاب إن الاتحاد على ثقة بأن الذين يقفون وراء هذه الحوادث لا يمثلون مصر الحرة النقية العريقة فى الحرية، وأن الاتحاد يدعو الله أن يوفق الرئيس السادات فى مواجهة ما نتج عن هذه الأعمال الرعناء حرصا على بقاء الديمقراطية وحرية الرأى.
أما مجلة "روز اليوسف" فقد كان غلافها يحمل عنوانا مثيرا:
وفى الصفحة الأولى من "أخبار اليوم" نشر خبر بأسفل الصفحة يقول إن حسنى عابد رئيس نيابة شرق القاهرة قرر الإفراج عن أحد المقبوض عليهم من المتهمين بالتظاهر وبإطلاق هتافات معادية للنظام، بعد أن اتضح من التحقيق أنه أخرس.
أما الصحف الأجنبية فقد اولت الأحداث التى اسمتها Food Riots أى مظاهرات الطعام اهتماما كبيرا، ونشرت جريدة "التايمز" اللندنية أن الحكومة مازالت تبحث عن كبش فداء تقدمه للرأى العام لتبعد عن نفسها مسؤولية الاضطرابات الأخيرة التى عمت البلا بشكل لم يسبق له مثيل منذ عقود مضت، والتى اندلعت بشكل عفوى على أثر إعلان حكومة الرئيس السادات رفع الدعم عن بعض السلع الرئيسية بشكل مفاجيء، وقد أعلن الأمن المصرى أنه تم إلقاء القبض على أربعة صحفيين ونشرت الصحف دون أيه مراعاة للاعتبارات القانونية، أسمائهم وجهات عملهم والجرائم التى زعمت أنهم قاموا بها.
كما نشرت الجريدة فى نفس العدد عن مراسلها فى تل أبيب أن شيمون بيريز وزير الدفاع الإسرائيلى أوضح أن مصر نقلت قوات من المدرعات ومن الصاعقة من جبهة سيناء لمواجهة المتظاهرين فى الوادى، وقال إن هذه القوات انتقلت إلى أسوان والأسكندرية والقاهرة والسويس حيث تم فرض حظر التجول.
أما جريدة "لوموند" فقد نشرت أن عدد ضحايا الاضطرابات التى هزت مصر يومى ١٨ و١٩ يناير وصل الى ٧٩ قتيلا من بينهم ٤٤ فى القاهرة بينما جرح ما لا يقل عن ٨٠٠ شخص وتم اعتقال أكثر من ألفين، وكانت جريدة "الجارديان" أول من أعلن أن السادات بعد أن تراجع عن رفع الأسعار الذى ولد انفجار الجماهير سيقوم بإجراء تعديل وزارى خلال الأيام القليلة القادمة لامتصاص غضب الجماهير وإلقاء اللوم على الحكومة التى سيقيلها، متجاهلا أن رجل الشارع المصرى فى ظل الحكم السلطوى القائم يعرف جيدا أن السادات هو مصدر كل القرارات، وقالت أنه ربما كان هذا هو السبب فى عدم قبول استقالة وزير الإقتصاد الدكتور عبد المنعم القيسونى انتظارا لأن يقيله السادات فى إطار التعديل الوزارى المرتقب.
وقد ورد فى نفس العدد مقال شديد اللهجة لمراسل الجريدة الصحفى المعروف ديفيد هيرست كان عنوانه "رقابة بدون رقيب" كشف فيه خداع شعار حرية الصحافة الذى يتشدق به السادات، وقال إن السادات الذى يدعى أنه رفع الرقابة عن الصحف أصبح يتدخل بنفسه عن طريق رؤساء التحرير فيما ينشر ومالا ينشر، وقال أنه فى ظل هذا الوضع لم تعد هناك حاجة لوجود رقيب فى صالة التحرير، ثم قال هيرست أن أمامه تحقيقا صحفيا لمحمد سلماوى رفع من الطبعة الأولى لجريدة "الأهرام" بعد أن تنبهت إليه السلطات لأنه يدور حول عودة الإقطاع إلى إحدى القرى الصغيرة فى الدلتا المصرية والتى تحمل اسم "الناصرية الجديدة" وبه تصوير لمعاناة فلاحين القرية الذين انتزعت منهم الأراضى التى حصلوا عليها فى ظل الحكم الناصرى، وقال أن محمد سلماوى (وهو ليس شيوعيا) موجود الآن رهن الاعتقال بأحد السجون المصرية، أما تهمته فهى أنه تواجد فى موقع المظاهرات، وأنهى هيرست مقاله بعبارة ساخرة قال فيها: تلك هى حرية الصحافة فى ظل حكم السادات حيث يتم طرد الصحفيين الأجانب الذين يغطون الأحداث، ويعتقل الصحفيون المصريون إذا تواجدوا فى موقع تلك الأحداث، فهل للصحفيين موقعا آخر؟!
مفكرتي الحمراء التى كنت أدوّن بها احداث السجن يوما بيوم
أصابتنا تلك القراءات باكتئاب شديد بعد أن تكشفت أبعاد الموقف فى الخارج والمحاولات المستميتة التى كانت تقوم بها الأجهزة الرسمية فى الدولة لطمس الحقيقة بتلفيق الإتهامات، وفى نفس الوقت رفع شعارات مخادعة تتحدث عن الحرية والديمقراطية، وقد بات الآن واضحا لنا جميعا أن فترة السجن ستطول بأكثر مما كنا نتوقع.
فى ذلك المساء فإن حيل فيليب جلاب للتقليل من جسامة ما نتعرض له من ظلم لم تنجح فى التهوين علينا، أو التقليل من شعورنا بالاحباط، وحل علينا حزن مقيم، فانقطع الحديث، وساد الصمت.