يرسخ اليمين القومى تقدمه فى القارة العجوز، منذ العقد الأول من القرن الحالى، وأكدت عمليات انتخابية هامة متتالية فى عدة دول أوروبية خلال العام 2017، تنامى هذا الاتجاه من الشعوب نحو تأييد وزيادة دعم أحزاب اليمين المتطرف، الأمر الذى ظهر جليًا فى الانتخابات بكل من فرنسا وألمانيا والنمسا وهولندا، وذلك سواء انتهت بفوز ممثلى اليمين أو خسارتهم مع كسب شعبية أعلى مما كانت لهم فى السابق.
ويسرع نجاح الأحزاب الشعبوية المشككة فى البناء الأوروبى، والمعادية للهجرة، إعادة تشكيل المشهد السياسى فى القارة، حيث برزت تلك الأحزاب فى المشهد السياسى بالعديد من الدول، وكان على سبيل المثال فى ألمانيا، حيث يدخل حزب "البديل من أجل ألمانيا" اليمينى، لأول مرة إلى البرلمان الألمانى "البوندستاج"، الأمر الذى يرسم شكل جديد للساحة السياسية فى القارة الأوروبية، ومع ذلك فإنه يسفر أيضًا عن انشقاقات داخل هذه التشكيلات.
صعود اليمين المتطرف فى هولندا وفرنسا وألمانيا والنمسا
وحققت الأحزاب اليمينية المتطرفة، نتائج تاريخية رغم عدم حلولها فى المراتب الأولى لاستلام زمام الحكم، كما هو الحال فى فرنسا، فرغم المنافسة القوية التى شاركت بها المرشحة اليمنية مارين لوبان، رئيسة الجبهة الوطنية، فى سباق الانتخابات الرئاسية الفرنسية، إلا أن التفوق جاء فى النهاية لصالح، المرشح الوسطى، إيمانويل ماكرون، ومع ذلك فإن تأهل "لوبان"، للجولة الرئاسية الثانية للانتخابات جاء مع مضاعفة عدد الأصوات التى حصل عليها "جان مارى لوبن"، قبل 15 عامًا.
وفى هذا الصدد، قال الباحث الهولندى، كاس مود، الأستاذ فى جامعة جورجيا الأمريكية، إن اليمين القومى فى أوروبا اليوم هو أكثر شعبية من أى وقت مضى منذ عام 1945، مشيرًا إلى أن حزب الحرية بزعامة، جيرت فيلدرز، فى مارس، حل ثانيًا وبات أكبر قوة فى البرلمان الهولندى خلف الليبراليين، بعد حصوله على 20 مقعدًا من أصل 150، ليضيف بذلك إلى رصيده السابق 5 نواب.
زعيم حزب الحرية الهولندى جيرت فيلدرز
وكانت الصدمة الأخرى فى الانتخابات التشريعية الألمانية، فى سبتمبر، مع اختراق غير مسبوق حققه حزب "البديل من أجل ألمانيا"، ودخوله البوندستاج بـ12.6% من الأصوات، مقابل 4.7% قبل 4 سنوات.
ويمكن للنتائج التى حققتها مارين لوبن، وجيرت فيلدرز، اللذان كانا يريدان فوزًا حاسمًا فى بلديهما، أن تعطى انطباعًا عن أداء سلبى، لكن "الكأس أصبحت مليئة بنسبة ثلاثة أرباع بالنسبة للقوى القومية" - وفقًا لخبير الشئون السياسية الفرنسى، باتريك موريو.
من جهته، أنهى حزب الحرية النمساوى، الأقدم بين حركات الأسرة القومية الأوروبية، الموسم الانتخابى مقتربًا من سجله القياسى فى 15 أكتوبر الماضى، بنسبة 26%، فيما يستعد للحكم فى ائتلاف مع حزب المحافظين، أما فى إيطالياـ والسويد، حيث من المتوقع أن تجرى الانتخابات التشريعية عام 2018، فإن اليمين القومى يبدو عالقًا فى كمين بمواجهة أحزاب اليسار والوسط، ورغم ذلك فإنه يمثل مصدر قلق لمنافسيه.
الهجرة والإرهاب سبب صعود اليمين المتطرف فى الدول المزدهرة
وفى السياق ذاته، قال مايبل بيريزين، أستاذ علم الاجتماع فى جامعة كورنيل الأمريكية، "لكل بلد رواية مختلفة، لكن وراء نجاح اليمين المتطرف نجد دائمًا فكرة انعدام الأمن، حقيقية كانت أم متخيلة، مرتبطة بتدفق الهجرة والإرهاب أو التقلبات الاقتصادية".
ويؤكد نجاح اليمين القومى فى الدول المزدهرة مثل ألمانيا والنمسا، التحليلات التى توضح منذ عقود من الزمن أن الهجرة مصدر قلق رئيسى للناخبين من اليمين القومى، وفقًا لما يقوله الباحث "مود"، حيث حقق حزبا البديل لألمانيا، والحرية النمساوى، نجاحهما فى بلدين كانا بين الدول الأوروبية التى استقبلت أكبر عدد من المهاجرين منذ عام 2015، ما أدى إلى جدل حول كلفة ذلك وإمكانية اندماج الوافدين الجدد فى المجتمع، إلا أن وجود المهاجرين لا يوضح وحده أداء اليمين القومى الذى يستفيد أيضًا من الاستياء تجاه الأحزاب والنخب السياسية والاقتصادية والثقافية.
فراوكه بيترى زعيمة حزب اليمين من أجل المانيا
المحافظون يتعاونون مع اليمين المتطرف فى النمسا
وفى هذا الوضع التنافسى المتفاقم، تتراوح خيارات الأحزاب الأخرى حيال هذا الواقع بين الابتعاد أو نسخ الأنماط أو التعاون، وضمنها المعسكر المحافظ الذى يحرجه تجذر اليمين المتطرف بحيث أصبح مرغمًا على تكييف استراتيجيته، وعلى السبيل المثال، أدى اختيار المستشار النمساوى الشاب، سيباستيان كورتز، زعيم حزب الشعب النمساوى المحافظ، البالغ من العمر 31 عامًا، والمتنافس مع حزب الحرية على مواضيع الهجرة ومكانة الإسلام فى المجتمع والأمن، إلى توقيع اتفاق بينهما.
وهنا، قال خبير الشئون السياسة النمساوية، توماس هوفر، "لقد ذهب (كورتز)، بعيدًا جدًا فى تقاربه أيديولوجيًا مع حزب الحرية، إنها استراتيجية يمكن أن تعمل طالما أنها لا تقضى تمامًا على هوية حزبه".
المستشار النمساوى الشاب سيباستيان كورتز
تقارب أحزاب الوسط واليمين رغم اختلاف الأيديولوجيات
ولم يختلف الأمر كثيرًا من النمسا إلى عدة دول أخرى، ففى بلغاريا، يحكم حزب يمين الوسط، بزعامة رئيس الوزراء، بويكو بوريسوف، منذ مارس، مع ائتلاف من الأحزاب القومية، وفى المجر، يسمح توجه رئيس الوزراء المحافظ فيكتور أوربان، بشكل متزايد نحو كراهية الأجانب، للحزب المتطرف "جوبيك"، الذى قرر تعديل خطابه بتقديم نفسه كبديل رئيسى لـ"أوربان".
أما فى فرنسا، ما تزال الأحزاب التقليدية تستبعد التحالف مع اليمين المتطرف، كما هو الحال فى ألمانيا، وهولندا، لكن اليمين الفرنسى اختار للتو أن يقوده رجلًا فى الأربعينيات من العمر هو "لوران فوكييه"، المتهم بالتطرق إلى المسائل التى يتبناها حزب مارين لوبن، لكن الباحث مود، يتوقع أن تسجل الأحزاب التقليدية الساعية إلى محاكاة اليمين القومى، نجاحًا على المدى القصير لأنها تقلل من شأن معنويات الناخبين المناهضين للنظام القائم.
تصدع واضطراب داخل أحزاب اليمين بعد صعودها
وكما أشرنا من قبل إلى أن الصعود رافقه تصدعات داخلية فى الأحزاب اليمنية، فإن الاضطرابات الداخلية برزت بالفعل فى الجبهة الوطنية، وحزب البديل لألمانيا، منذ صعودهما الانتخابى، حيث يمر الحزبين بصعوبة فى وضع حد للخلافات الداخلية المرتبطة بالخيارات الأيديولوجية أو تنحية التناحر الفردى جانبًا لفترة طويلة.
وشهد عام 2017، أيضًا، انهيار الحزب الشعبوى الفنلندى، الذى يواجه صعوبات بسبب ممارسة السلطة منذ عام 2015 ضمن ائتلاف مع الوسطيين والمحافظين، وأوضح هوفر، أن "موقف الحليف الذى يشكل أقلية هو دائمًا الأكثر انزعاجًا، فقد استغرق الأمر عدة سنوات لكى يضمد حزب الحرية النمساوى جراحه الناجمة عن أول تحالف مع المحافظين بين عامى 2000 و2007"، وتابع "لدى الحركات المماثلة لحزب الحرية جينات معارضة، وليس من السهل أن تتحول إلى حالة حكومية".
مارين لوبان المرشحة السابقة للرئاسة الفرنسية
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة