محمد شومان

تأملات فى العلاقة بين الإسلام والقومية العربية

السبت، 30 ديسمبر 2017 03:00 م

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
قد يكون الفكر القومى العربى والسعى للوحدة العربية فى حاجة إلى مراجعة شاملة أو ولادة جديدة، وأتصور أن هذه المهمة تتطلب مراجعة نقدية لنشأة وتطور القومية العربية. والفرضية الأساسية التى أطرحها هنا أن أولوية المبدأ القومى فى قيام الدولة وَفَدَ حديثًا إلى الفكر الإسلامى مع منتصف القرن التاسع عشر، وجاء نقلاً عن الفكر والخبرة الأوروبية. وقد طُرِحت الفكرة القومية ضمن الأفكار التحديثية التى كان على الفكر الإسلامى الاستجابة لها والتفاعل معها، ومن ثَمّ طُرِحت الفكرة القومية بتجلياتها الوطنية (القطرية) والعربية والإسلامية فى سياق الفكر الإسلامى المعاصر، سواء فيما يتعلق بأسس هذا الفكر وإشكالياته وغاياته النهضوية.
 
ولعل رؤية رفاعة الطهطاوى (1801-1873م) عن الوطن والوطنية، وأعمال جمال الدين الأفغانى (1838-1897م) عن الجنسية (القومية) والجنسية الإسلامية والوحدة الإسلامية، وعبدالرحمن الكواكبى (1848-1902م) عن الأمة العربية والخلافة العربية، تعكس بعضًا من تلك الاجتهادات التى تواصلت فى الفكر الإسلامى المعاصر دون أن تتكامل، نتيجة خضوع تلك الاجتهادات لدواعى العمل والصراع السياسى، علاوة على أزمة النهضة فى المجتمعات العربية، مما أفضى إلى تعثر الاجتهاد والتجديد، وسيادة أفكار ونماذج جامدة فى التعامل مع المعانى والتجارب المختلفة للقومية، إما برفض المبدأ تأثرًا بتجارب سياسية معاصرة، وادعاء أن الإسلام لا يعرف القومية، أو بأن القومية هى مؤامرة استعمارية صهيونية، بل وشيوعية فى بعض الأحيان.
 
والحقيقة أن القومية العربية أو العروبة تعززت بوجود الأمة العربية، وارتباط العروبة بالإسلام عبر التاريخ، فمن هذه الجذور، وفى نطاق تحديات داخلية وخارجية، ظهر الوعى الحديث ليتجه من العروبة بمفهوم ثقافى اجتماعى، إلى العروبة بمفهوم سياسى. وقد جاء هذا التحول بمثابة رد فعل لضعف الدولة العثمانية عن مجابهة الاستعمار الغربى، والاتجاه نحو التتريك، ومن ثم بحث العرب عن مخرج لأزمة الدولة العثمانية يحافظ على بقاء الخلافة الإسلامية ويمنع تسلط الأجانب عليه.
 
لكن الأتراك سبقوا العرب فى النسبة إلى قوم (قومية)، واعتبار ذلك مقابلاً لـ Nationalism، والقوم فى الأصل اللغوى العربى والاستعمال القرآنى «جماعة نسب أو ولاء أو هما معا»، بيد أن الترك استعملوها بداية للدعوة إلى قومية عثمانية أو إسلامية إن صح التعبير.. أما بالعربية فإن القومية استُخدمت مطلع القرن العشرين مرادفةً للوطنية.. وربما كان أول استعمال للمفرد بالعربية بمعنى Nationalism قد تأخر إلى عام 1916م حيث ظهر فى إعلان الشريف حسين الثورة على الدولة العثمانية.
 
وكانت أغلب الكتابات العربية التى ظهرت فى أواخر القرن التاسع عشر قد استعملت مفهوم العروبة والقومية العربية كمترادفين، دون أن تميز بينهما، على أساس أن لكل منهما مجالين مترابطين ومتداخلين، الأول ثقافى يتعلق بنشأة الجماعة والهوية العربية والأمة العربية والإسلامية، والثانى سياسى مختص بقيام دولة عربية على أسس إسلامية.
 
ولم تعرف أغلب تلك الكتابات هذا التمييز بين المجالين الثقافى والسياسى لكل من العروبة والقومية العربية، لذلك تعاضدا، ولم يظهر بينهما أى قدر من الخلاف، ربما بسبب التحدى الغربى ثم تحدى التتريك. ولعل أعمال رواد الدعوة إلى الجامعة الإسلامية، الأفغانى ومحمد عبده (1849-1905م) والكواكبى، تعكس هذا التكامل بداية من العروبة بالمفهوم الثقافى فى مواجهة التغريب ولاسيما فى المغرب العربى. حيث يؤكد الأفغانى دور العرب فى الحضارة الإسلامية، ومركزية دور اللغة فى تكوين الأمة فيقول: (الأمة العربية هى عرب قبل كل دين ومذهب، وهذا الأمر من الوضوح والظهور للعيان ما لا يحتاج معه إلى دليل أو برهان).
 
بينما يُكسِبُ الكواكبى العروبة أبعادًا سياسية واضحة، فى إطار اعتزازه بالعرب (والصورة العربية للتمدن الإسلامى)، وكونهم- أى العرب - هم كما يقول: (الوسيلة الوحيدة لجمع الكلمة الدينية بل الكلمة الشرقية). ومن ثم دعا الكوكبى إلى بقاء الجامعة الإسلامية، شرط أن تنتقل الخلافة إلى إمام عربى قرشى، أى أن الكواكبى ربط ضمنيًا بين عز العرب وعز الإسلام والمسلمين، وهى فرضية أساسية فى الفكر الإسلامى المعاصر، تظهر فى صياغات مختلفة عند تعامله مع القومية العربية، وتكييفه لعلاقتها بنهضة الإسلام واستعادة دوره الحضارى.
 
ويلاحظ عبدالعزيز الدورى أن الخط الإسلامى العربى، ابتداءً من الكواكبى، اتخذ وجهةً عربيةً قوميةً لا ترى أى تعارض فى الأصل بين الإسلام والقومية العربية، لأن العرب فى غالبيتهم الساحقة كانوا مسلمين، ولأنه إلى جانب أهداف تقرير المصير والتوق إلى الحكم الذاتى، كانت هناك أهداف وغايات أخرى، منها النهوض لحماية الإسلام ولاستعادة أمجاده الغابرة. ويندرج ضمن التيار الإسلامى العربى، ويعبر عنه بدرجات مختلفة، فكر وعمل محمد رشيد رضا (1865-1935م)، ومحمد كرد على (1876-1953م)، ومحب الدين الخطيب (1887-1969م)، وشكيب أرسلان (1869-1946م)، علاوة على الخطاب السائد فى الجمعيات التى ظهرت فى إطار ما يُعرف بالحركة العربية، والمؤتمر العربى الأول 1913م، والثورة العربية، والمملكة العربية 1920م. ولا يتسع المجال لتقديم تحليل وافٍ للخط العام فى تلك الأعمال التى زاوجت بين الاعتبارات النظرية والسياسية.
 
هكذا كانت نشأة الفكر والحركة القومية العربية الإسلامية، وهو ما يعنى أن القومية العربية كانت رافدًا من روافد الفكر الإسلامى، وليس العكس، ولعل ما يرجح ذلك أن القومية العربية فى أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن الحالى لم تتوافر لها الظروف الموضوعية التى تتيح لها مصداقية أن تنفصل عن الإسلام، أو تُطرَح أيديولوجيًا فى مشروع مستقل عن الإسلام، كذلك فقد حظيت صيغة الجمع بين العروبة والإسلام بالذيوع والانتشار العام فى الشام وبقية الأقطار العربية، فى مقابل محدودية أثر بعض كتابات وجماعات صغيرة معظم عضويتها من المسيحيين المتأثرين بالتعليم والأفكار الغربية.
 
لكن المفارقة العجيبة أن الجماعات الإسلاموية المعاصرة–بدأت مع ظهور الإخوان المسلمين عام 1928–اتخذت موقفًا معاديًا من القومية العربية والعروبة، نتيجة صراعات سياسية وصدامات دموية خاضتها ضد أنظمة عربية فى خمسينيات القرن الماضى رفعت شعارات قومية، مثل الناصرية فى مصر، والبعث فى سوريا والعراق.. لقد أدى ذلك إلى إعلان تلك الجماعات الإسلاموية رفضها الشديد للقومية والعروبة وصورتها، وكأنها مؤامرة على الإسلام والمسلمين. وهو موقف يتناقض تمامًا مع نشأة الفكر القومى العربي، ويفتح المجال لتفسيرات مهمة تتعلق بغياب الوعى السياسى لدى الجماعات الإسلاموية، وتوظيفها من دون أن تدرى كأدوات فى يد قوى استعمارية، للعمل ضد مصلحة الشعوب العربية، من خلال خلق تناقضات وصراعات وهمية، كالصراع بين العروبة والإسلام، أو بين الوحدة العربية والوحدة الإسلامية، والأهم الصراع بين الوطنية المصرية والانتماء للإسلام.






مشاركة






الرجوع الى أعلى الصفحة