فى قوارب صغيرة متهالكة، وبأعداد كبيرة، يبدأ تلاميذ مدرسة الفقيرة الابتدائية رحلتهم لطلب العلم، أطفال بدرجة أبطال يتخطفهم الموت من كل مكان، تلفحهم الأمواج فى برد الشتاء، تصحبهم دعوات آبائهم وأمهاتهم حتى يعودوا فى المساء، خاصة بعد تكرار حوادث غرق المعديات المفزعة التى انتشرت مؤخراً حاصدة مئات الأرواح من البسطاء الذين يدفعون ثمن إهمال وتخاذل المسئولين وغياب الرقابة، الأمر الذى ينذر بوقوع كارثة جديدة، وعلى الرغم من صرخات الأهالى من كوارث النقل النهرى وغرق معديات نقل ركاب وانقلاب صنادل، فإن الحكومة فى وادٍ آخر.
هل لا يزال القارب وسيلة مواصلات فى القرن الواحد والعشرين؟!
قرية الفقيرة ليست اسماً فقط، بل هى وصف لما تحمله من معنى، نظراً لما يعانيه سكانها من الفقر وضيق الحال وقلة الموارد، وهى إحدى القرى التابعة لبنى عقبة أو كما تسمى قرية "المضل" الأثرية، وتقع على بعد 45 كيلو متراً جنوب شرقى مدينة بنى سويف، وهى تابعة لمجلس قروى سدس مركز ببا.
المقابر تحاصر المدرسة وانعدام وسائل الترفيه
أطفال الفقيرة يفتقرون للعديد من الخدمات مقارنة بأقرانهم فى القرى المجاورة، وأبرزها مراكز الشباب وأماكن اللعب والترفيه، فضلاً عن الوحدات الصحية والطرق الممهدة ووسائل النقل الآدمية، وما إن تطأ قدماك شوارع القرية تلحظ طبيعتها الجبلية، والمساحات الواسعة أمام المنازل والتى يتخذها الأطفال أماكن للعب والترفيه، وتحيط بهم المقابر من كل جانب، أما عن الخدمات الصحية فهى والعدم سواء، حيث يضطر الأهالى إما العبور للبر الغربى، حيث العمران والمستشفيات والوحدات الصحية، أو قطع مسافة تزيد عن النصف ساعة وصولاً لأقرب وحدة صحية، خاصة أنهم يعيشون فى منطقة جبلية ويتعرضون دائماً للدغ العقارب والثعابين والتى تحتاج لسرعة تلقى العلاج.
الفقيرة يمكن وصفها بأنها من القرى المنسية، كغيرها الكثير من قرى الصعيد، التى يعيش أهلها فى عزلة بعيداً عن العمران، مفتقدين للعديد من المقومات المهمة والرئيسية للحياة، وتعد المعدية أو القوارب الصغيرة أهم وسائل النقل التى تربط أهالى القرية بالبر الغربى، بما تمثله تلك القوارب المتهالكة من خطورة على أرواح المواطنين، خاصة فى فصل الشتاء، لاسيما مع سقوط الأمطار وشدة الرياح، وهنا تبدأ "رحلة الموت" التى يخوضها التلاميذ أثناء ذهابهم وعودتهم من المدرسة.
المدرسة الابتدائية هى المرفق الحكومى الوحيد بالقرية، لأن أقرب مدرسة إعدادية فى قرية المضل، على بعد 3 كيلو مترات من القرية، وتضم مدرسة الفقيرة بين جدرانها حوالى ما يزيد عن 300 تلميذ، مقسمين بين ابتدائى وإعدادى، من أهالى الفقيرة وبعض قرى الجزر الوسطى للنيل، وهى (عزبة الشاطر، وفريد 1 وفريد 2)، والذين يذهبون إلى المدارس بالقوارب.
رحلة محفوفة بالمخاطر والمدرسين بيطفشوا من أول شهر
من جهته أكد مصدر مسئول بالمدرسة، أن الذهاب إلى المدرسة رحلة محفوفة بالمخاطر، خاصة فى فصل الشتاء بما يحمله من برودة الجو وسقوط الأمطار، ما يمثل خطورة بالغة على حياة الأطفال الذين يأتون إلى المدرسة من الجزر الوسطى، موضحاً أن عدم وجود وسائل نقل آمنة، ووجود المدرسة وسط المقابر، وزيادة تعريفة ركوب المراكب النيلية بشكل مبالغ فيه، تعد أبرز أسباب معاناة المدرسين قائلاً، "بيطفشوا من أول شهر ويطلبوا النقل"، لذلك تعانى المدرسة من نقص دائم فى المعلمين.
نقل أوراق الامتحانات بالمراكب
وأشار المصدر إلى أن عملية نقل أوراق الامتحانات لتلاميذ المدرسة تتم عن طريق القوارب والمراكب النيلية، بأن يقوم أحد المدرسين باستلام الأوراق وخوض رحلة محفوفة بالمخاطر، حال غرق الأوراق أو تعرضها للتلف، الأمر الذى ينذر بكارثة حال حدوثه تؤثر على مستقبل تلاميذ المدرسة وربما تأجيل الامتحانات لحين طباعة أوراق جديدة.
ولكن ماذا لو حدثت كارثة، من حريق أو تسمم بعض التلاميذ مثلا، كيف يمكن إنقاذ أرواح هؤلاء الأطفال؟
يوضح المصدر أنه حال حدوث أى كوارث يتم نقل التلميذ إلى أقرب وحدة صحية فى قرية العجرة، مشيراً إلى تواضع الخدمة الصحية الموجودة بها، فضلاً عن قلة الإمكانيات وضعف التجهيزات، أما حال إصابة الشخص ليلاً فإنه إما يتم نقله بالمراكب إلى أحد المستشفيات، أو الانتظار للصباح، الأمر الذى يمثل خطورة على حياته.
أما سمير شحاتة، رئيس الوحدة المحلية لسدس التابعة لها الفقيرة، فقال إن مدرسة الفقيرة تضم إلى جانب تلاميذ القرية بعض قرى وسط النيل، وهى (عزبة الشاطر، وفريد 1 وفريد 2)، والذين يستقلون المراكب والقوارب النيلية فى طريقهم إلى المدرسة، موضحاً أن تلك القوارب هى وسيلة النقل الوحيدة المتاحة لهؤلاء الأطفال، وفى حال وقوع كارثة فإنه يتم نقل المريض إلى أقرب وحدة صحية بقرية العجرة، والتى تستغرق حوالى نصف ساعة، مشيراً إلى رفض الجهات المعنية إنشاء وحدة صحية بالقرية نظراً للعامل الجغرافى والمكانى وقربها من تلك الوحدة، والتى وصفها بتواضع الإمكانيات وضعف التجهيزات، على حد تعبيره.
يقول "أ ح ع"، أحد أهالى القرية، إنه حال إصابة أحد بأية إصابة تستدعى نقله للمستشفى، يتم اللجوء للقارب لنقله إلى البر الغربى ومن ثم إلى أقرب مستشفى بالمركز، أو عيادة طبيب خاص، أما البديل فيكون بالانتقال إلى أقرب وحدة صحية بقرية العجرة، موضحا أن تلك الوحدة تفتقر للعديد من الخدمات الصحية التى يحتاجها المريض، وبالتالى يكون البديل الأول هو الأوفر.
ووجه أحد الأهالى رسالة لمحافظ الإقليم المهندس شريف حبيب قائلا، "مالناش غير ربنا نشتكيله، إحنا هنا محدش يعرف عننا حاجة، ومدفونين بالحيا بين المقابر، لا بنشوف مسئول ولا حد بيسأل فينا، نفسنا فى كوبرى يحمى أرواحنا ويسهل انتقالنا، لحد أمته هنفضل منسيين كده، كل اللى عاوزينه مواصلات آمنة تحافظ على حياة ولادنا، ووحدة صحية صغيرة، عشان لو حد تعب نقدر ننقذ حياته".
وما زال السؤال مطروحا، هل لا يزال القارب وسيلة مواصلات فى القرن الواحد والعشرين؟!
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة