بطبيعة الحال ليس لنا أن نصادر على حق السودان فى اختيارات السياسة والعلاقات مع الغير التى يراها تصب فى مصلحته، لأن السودان دولة مستقلة وذات سيادة على أراضيها، وبها من القوى السياسية والشباب من لديهم القدرة على التمييز بين الصالح والضار لبلدهم، والوقوف فى وجه النظام الحاكم إذا جار أو حاد عن الصواب، لكن فى المقابل هناك قاعدة متعارف عليها دوليا اسمها لا ضرر ولا ضرار، وأن أمنك ينتهى عندما يمس أمن الآخرين.
إذا نظرنا إلى طبيعة العلاقة التى تربط مصر بالسودان، وامتداد المصالح والروابط بينهما سنجد أننا حاضرون فى غالبية ما تقوم به الخرطوم من تصرفات وأفعال، ليس من قبيل التدخل فى شؤونها الداخلية، لأن هذا ليس مطلبا لنا أو هدفا نسعى له، وإنما مرتبط أساسا بأن أمن البلدان شبه مترابط، بحكم الجوار وغيرها من الأسباب التى يدركها الإخوة فى الخرطوم، وجعلتهم كثيرا يتحدثون مع الحكومة المصرية فى إجراء قامت به رأت الخرطوم أنه يلمس شيئا لديهم، كما لا يستطيع أحد إنكار أن البلدان يجمعهما تاريخ طويل من التعاون المشترك امتدادا لكل الروابط الاجتماعية والجغرافية ايضا.
كل المعطيات تؤكد أننا لا يمكن أبدا التدخل فى شؤون السودان، وأن أى ردود تصدر عن مصر خاصة من الإعلام المصرى تدخل فى صميم اهتماماتنا بكل ما من شانه الإضرار بمصالح مصر وأمنها القومى، وهو ما ينطبق على الزيارة التى قام بها مؤخراً الرئيس التركى رجب طيب أردوغان للخرطوم، فنحن لم ولا يمكن أن نعترض على هذه الزيارة، لأنها فى النهاية شأن سودانى تركى، لكن تناولنا الزيارة حينما أمتدت للأمن القومى المصرى من وجهة نظرنا، خاصة حينما وافق الرئيس السودانى عمر البشير على منح تركيا جزيرة سواكن لإعادة تأهيلها وأدارتها، وهى الجزيرة التى تقع شمال شرق السودان، على الساحل الغربى للبحر الأحمر وعلى ارتفاع 66 متراً فوق سطح البحر، وهو ما يعنى عملياً أن الخرطوم أعطت الجزيرة لتركيا لتكون قاعدة عسكرية وفى نفس الوقت منفذ جديد للأتراك على البحر الأحمر، وإلى هنا لا يمكن اعتبار الأمر شأن سودانى، بل مرتبط بكل الدول المطلة على البحر الأحمر ومن بينها مصر، لأن القرار الأخير بمثابة تغيير فى التركيبة الجغرافية والعسكرية أيضا للمنطقة، وهو أمر يجب أن تدركه جيداً الخرطوم، وكلى يقين أنهم يدركونه، كما أنهم يدركون جيداً أن استضافتهم لرئيسا أركان الجيشين التركى والقطرى فى توقيت زيارة أردوغان أمر مريب، ويمثل عبثا من جانب السودان فى الأمن القومى للمنطقة بأكملها، خاصة أن الدولتان لهما دور تخريبى معروف فى دول المنطقة، ولا تزال أذرعهم تعبث بأمن ليبيا، وللأسف الشديد، من خلال دعم وتأييد ظاهر وعلنى تقدمه الخرطوم للميليشيات العسكرية الممولة من قطر وتركيا لمواجهة الجيش الوطنى الليبى بقيادة المشير خليفة حفتر.
حينما تستضيف الخرطوم اجتماعات لمسؤوليين ينتمون لدول كل دورها العمل على تخريب المنطقة، والعبث بأمن دولها من خلال دعم الميليشيات الإرهابية المسلحة، فأن الأمر يتعدى فكرة السيادة السودانية، لأن الخرطوم بذلك تخطت الحدود، وقبلت لنفسها أن تكون رأس حربة تستخدمها هذه الدول لتوجيه ضربات لجيرانها، وغير بعيد عنا ما عانت منه مصر فى الماضى من قوافل السلاح التى كانت تأتى للإرهابيين فى مصر من داخل الأراضى السودانية، والكثير من الأمور والحقائق التى يتهربون منها، وكأنها لم تحدث رغم يقينهم الثابت بتورطهم.
نحن كإعلاميين مصريين لا نستهدف أبداً أحداث الوقيعة بين الشعبيين، بدليل أن مبادرات التوافق دائما ما خرجت من مصر، لكنها كانت تتوقف عند الحدود مع السودان لأسباب غير معروفة، وربما تكون مرتبطة بالمزاج العام الغالب على العقلية الحاكمة هناك، التى يسيطر عليها الطابع الدينى الأخوانى، وهو أمر معروف للكل وليس فيه افتراء على أحد.
الإعلاميون المصريون غالباً ما يكون موقفهم رد فعل لعمليات استفزاز تأتينا من الخرطوم عبر تصريحات غير مسؤولة لمسؤولين من المفترض أن تكون لديهم القدرة على التناول السياسى الهادئ، أو من إعلام تحركه أهواء شخصية كل هدفها الإضرار بمصر، ولم يكن الإعلام المصرى البادئ مطلقاً، حتى حينما خالفت الخرطوم العهد مع مصر فى مسألة سد النهضة، انتظرنا كثيراً حتى نفهم أهدافهم، وبعدها لم نهاجم أحد، وإنما تحدثنا عن الأسباب الخفية التى قد تدفع شقيق للوقوف فى وجه شقيقه دون سبب واضح، فنحن لم نسئ أبداً لأحد، وإنما دائما نقابل الإساءة بالحسنى.
أمر آخر وأخير، وهو أننا ندرك جيداً أن الشعب السودانى الشقيق لا علاقة له بكل ما يحدث ويأتينا من الخرطوم، وأن غالبية أن لم يكن كل السودانيين غير راضين عن الأداء الحالى من جانب حكومتهم، لذلك فنحن نفرق دوماً بين الشعب والحكومة، ولن تفلح محاولات بعض المسيئين للعلاقات الشعبية فى أحداث الوقيعة.