أزمة مصر الاقتصادية الصعبة جدا فى الفترة الحالية، معروفة للجميع. يرتبط بها أزمة نقص موارد النقد الأجنبى، والاضطرار لتخفيض قيمة الجنيه المصرى، مما دفع المنتجين والمستوردين لمضاعفة أسعار منتجاتهم وخدماتهم بصورة مبالغ فيها، حتى أصبح المواطن عاجزا عن الحصول على متطلباته الأساسية.
أضف إلى ذلك مشكلة بطالة نسبة كبيرة من المواطنين معظمهم فى سن الشباب، وازدياد مضطرد لمعدلات البطالة، مع انخفاض مضطرد لفرص العمل المتاحة، وتدنى أجر ما هو متاح منها.
وأشد ما يزعج أى مراقب فى كل ذلك أن هؤلاء المواطنين المطحونين كانوا هم وقود ثورة 30 يونيو وحماتها، وسيكونون دوما وقود أى جهود تنمية، وهم حماة الوطن، وسند النظام الذى سعينا إليه وخرجنا من أجله .
ارتباطا بهذه المقدمة هناك عدد من الملاحظات:
1: بالجهود الكبيرة من البنك المركزى والحكومة وبمزيد من الصبر، ستتحسن الأوضاع بالتأكيد. وسوف ننتصر على الأزمة، وسوف ننجح فى إدارتها والخروج منها بسلام أكثر قوة، وسنواصل طريق الاستقرار لهذا الوطن. ولكنى أخشى أن هذه الجهود الكبيرة فى إدارة والسيطرة على السياسات النقدية والمالية لا تحل، وحدها أو مع الاقتراض من الخارج، مشكلة مصر لأن مشكلة مصر هى فى نقص مواردها من النقد الأجنبى.
2: وأرى الحل والمستقبل الواعد فى تبنى فكر له جناحان وهما التصنيع والتجارة الخارجية
عندما تحتدم مشكلات مثل الفقر والبطالة وتصبحان مصدر تهديد حقيقى للوطن، وعندما تقوم ثورتان تستهدفان العدالة الاجتماعية الى جانب الكرامة الإنسانية، فإنى أتصور أن قضية التنمية الصناعية لابد وأن تتصدر أولويات العمل الوطنى، وأن يكون همّ الإعداد لمشروع جديد كبير لتصنيع مصر على رأس قائمة القضايا الوطنية الجديرة بالنقاش.
ومن هنا تصبح الصناعة هى "المساهم الأكبر والأساسى" فى تحقيق التنمية المتوازنة للمناطق الجغرافية، والمساهم الأكبر والأساسى فى زيادة معدلات النمو وإتاحة فرص تشغيل حقيقة، وتؤدى فى نفس الوقت إلى تقليل الاعتماد على الاستيراد، وإلى نمو الصادرات. من هنا يكون النمو الصناعى هو المدخل لبلوغ هدف الثورة الحقيقى، ألا وهو الجمع بين النمو الاقتصادى والعدالة الاجتماعية.
3:فى التصنيع:
هذا الفكر يرى فى تصنيع مصر أو – قل إن شئت - إعادة تصنيع مصر، مشروعا عملاقا على نمط مشروعات الرئيس السيسى العمرانية.
مشروع عملاق يتم تنفيذه على 3- 5 سنوات يعيد الصناعة المصرية لدورها فى الناتج المحلى بنسبة معتبرة، ويزيد من قيمة مضافة معتبرة لخزينة الدولة، ويحقق التكامل داخل الصناعة الواحدة وبين الصناعات المختلفة وبعضها البعض، ويحل بمنتجات مصنعة محليا محل منتجات كانت تستورد، وينتقل بالصناعة إلى منتجات ذات قيمة مضافة عالية فى الصناعات ذات التكنولوجيا المنخفضة، ويزيد وزن القطاعات ذات التكنولوجيا المتوسطة والعالية فى الإنتاج وفى التصدير.
وسوف يصبح مشروع تصنيع مصر العملاق بقيمته المضافة محركا لتطبيق أوسع للعلم والتكنولوجيا والابتكار، وللإدارة الأفضل لتنمية المهارات والتعليم والتدريب، وكلها عوامل حاسمة لقدرة تنافسية أرفع .
ولعل من أهم نتائج مشروع تصنيع مصر أنه يؤدى إلى توفير فرص عمل حقيقية مستدامة بدخل لائق، ويؤدى إلى إضافة كبيرة للطاقة التصديرية، وبالتالى توفير مصدر مستدام للنقد الأجنبى، ويؤدى إلى خفض كبير فى فاتورة الاستيراد، وبالتالى وفر قدر كبير من النقد الأجنبى كان يوجه لمنتجات مستوردة، ويؤدى إلى تلبية الاحتياجات المعيشية الضرورية لغالبية المواطنين.
تتضمن مكونات مشروع التصنيع أيضا رفع الإنتاجية فى مراكز الإنتاج الصناعي، ومطلوب على التوازى زيادة الإنتاج الصناعى وتوسيع قاعدته وتنويع منتجاته، وتكاملهما يضمن التصنيع المحلى لمستلزمات الإنتاج.
مشروع تصنيع مصر ليس بالضرورة أن يكون قطاعا عاما وبدائل الآليات التمويلية هنا متعددة . الأساس فيه أنه يقام فى ظل اقتصاد حر دون أن ننسى أن معظم الدول التى حققت نجاحا مشهودا فى مجال التصنيع خلال العقود الماضية، كانت قد اتبعت سياسة صناعية متكاملة اقتضت تدخل الدولة لحماية الصناعات الوليدة الواعدة طبقا لمعايير صارمة من متابعة وتصحيح للأداء.
وإذا كانت بعض المشروعات الكبرى –وبالرغم من وضوح أهميتها- قد اتهمت بأنها لم تحظ بمناقشة واسعة، فهذه هى فكرة مشروع تصنيع مصر تحظى بمباركة شعبية قد تكون غير مسبوقة، إذ يكاد الأمر يصبح مطلبا جماهيريا، وكلما زادت معاناة المواطنين اليومية فى طعامهم وقوتهم وكسوتهم، زاد الالحاح على حتمية تصنيع مصر.
ولعل فيما يكتبه فى هذا الشأن المفكر الكبير فاروق جويدة خير تعبير عن ضمير الأمة.
وعلى عكس السياحة نجد الصناعة غير قابلة للتبخر والتطاير، إنها راسخة وفرص عملها مستدامة.
جدير بالذكر أن ما نعنيه هنا بالتصنيع ليس هو ما يعرض فى مؤتمرات تعقد، يعبر فيها الصناعيون عن معاناتهم ومشاكلهم مع التشريعات المعوقة أو الصعوبات التمويلية، إلخ.
ومن المهم فى هذا المشروع التأكيد على أولويتين أو ركيزتين أساسيتين وهما:
أ- التكامل مع الصناعات القائمة بمعنى استكمال تصنيع مكونات المنتج الواحد فلا معنى لحذاء جلده الخارجى فقط مصرى والباقى مستورد، أو دواء كيماوياته الدوائية/خاماته كلها مستوردة، أو لصناعة حديد وصلب تنحصر مخرجاتها فى حديد التسليح دون باقى المنتجات التى تقوم عليها صناعات عديدة أخرى. قد يصدم البعض إذا قلت أنه ليس صحيحا أن لدينا صناعة حديد وصلب، لدينا صناعة حديد تسليح معتبرة، أما صناعة الحديد والصلب فهى أعرض وأشمل مما لدينا بكثير. إذ يستخدم الصلب بأنواعه فى صناعة الكبارى وأوعية الضغط والعدد والتروس والغلايات والأجهزة المنزلية وعجلات السكك الحديدية وصناعة معدات الإنتاج، إلخ وهذا مالا ينتج فى أغلبه حاليا.
ب- إقامة صناعة جديدة حديثة ضمن المشروع للمعدات الرأسمالية، لأنها العمود الفقرى للصناعات التحويلية على اختلاف قطاعاتها وكذلك للصناعات الاستخراجية.
كيف نتحدث عن الصناعة فى مصر ومازلنا نستورد فى مصانعنا حزمة تكنولوجية كاملة، فنستورد المعرفة الفنية Know-How وندفع مقابلها إتاوات سنوية، ونستورد المعدات وخطوط الإنتاج.
لابد من الاعتماد فى التصنيع المستقبلى على ما فعلته جميع الدول التى تقدمت صناعيا، وهو تصنيع جزء كبير من معدات الإنتاج وخطوطه محليا. وهذا فى حد ذاته "أى التصنيع المحلى للمعدات" يفتح آفاقا إضافية لتشغيل أيدى عاملة تكون مرتفعة المهارات وذات أجور معتبرة.
وأعيد مالا أمل من تكراره وأعنى الخطأ الشائع أن بعضنا عندما يناقش هذه القضية يخلط بينها وبين ما يطلق عليه "تعميق التصنيع المحلى"، مغفلا أنهما أمران مختلفان.
وإذا كان السيد الرئيس قد أكد مرارا على هدف الحفاظ على بقاء وتماسك الدولة المصرية الذى يتعرض لمخاطر، يبقى السؤال: متى يلتقط النظام هذه الإشارة ونبدأ فى أكبر مشروع قومى لتصنيع مصر فى عهد الرئيس السيسى؟؟
هل نحن قادرون على مثل هذا المشروع؟ والإجابة الخبيرة نعم وبكل تأكيد.
لقد مهد الرئيس السيسى لهذا المشروع القومى الكبير، ولمشروع التجارة الخارجية أيضا، بما فعله لمصر فى العامين الماضيين فى مجال توفير الطاقة الكهربائية، وقناة السويس الجديدة، وشبكة الطرق غير المسبوقة، والكبارى والموانى والمطارات وتنمية منطقة قناة السويس، إلخ.
قد لايستطيع البعض أن يدرك فى الوقت الحاضر جدوى هذه المشروعات أو بعضها، ولكن الخبراء يعلمون علم اليقين أن مستقبل المصريين وحياتهم ستكون ربما للثلاثين سنة القادمة، مرتبطة ومعلقة بتلك المشروعات، صناعتهم وزراعتهم وتجارتهم واستثماراتهم إلخ.
4: فى التجارة الخارجية/الدولية:
الجناح الثانى لهذا الفكر هو التجارة الخارجبة أو الدولية، فالدنيا تغيرت ولم يعد شعار "التصنيع هو الحل" كافيا، إذ أصبح معدل النمو الاقتصادى لبلد ما يتوقف على ما يستطيع هذا البلد أن يحققه عن طريق التجارة الخارجية من إسهام فى هذا النمو. وأصيح للتجارة الخارجية مردود إيجابى واضح على كثير من المؤشرات الاقتصادية وأثر إيجابى مباشر على جذب الاستثمارات الأجنبية المباشرة. ومن هنا أصبحت الصناعة والتجارة الدولية صنوان متداخلان ومتلازمان.
ولهذا السبب، فى 2011، عندما دعيت لمقابلة دولة رئيس الوزراء المكلف د.عصام شرف وعرض على مشكورا استمرارى فى تولى مسئولية وزارة التجارة والصناعة (هكذا كان اسمها)، فقد طلبت أن يصبح اسم الوزارة "الصناعة والتجارة الخارجية" شارحا أسبابى ومنها أن تسمية الوزارات تنم أحيانا عن مكنون أولوياتها، وتفهم الرجل الفاضل واستجاب.
ولا يجب أن ترتبط التجارة الخارجية فى أذهاننا بالتصدير فقط، إنها تمس فى الأساس ثلاث أبعاد: حركة الصادرات من جانب، والواردات/المستوردات من جانب آخر، وبعدها الثالث هو اتفاقيات التجارة الحرة والاتفاقيات التجارية الثنائية والإقليمية والدولية.
والسياسة التى أنادى بها للتجارة الخارجية فى الزمن القادم هى جعل الأولوية للتعاون الثنائى بين مصر وكل بلد آخر على حدة. اتفاقيات التجارة الحرة والاتفاقيات التجارية الإقليمية والدولية مفيده ومهمة، ولكن النقلة الكبرى ستأتى من الثنائية.
ومطلوب هنا استكمال التفاوض غير المنتهى، وتفعيل ما لم يتم تفعيله بعد، ومراجعة كيفية استفادتنا بشكل أكبر من كل الاتفاقيات، وعقد اتفاقيات جديدة مع بلدان جديدة لتوسيع الأسواق. وقد تنشأ مراكز لوجستية هنا أو هناك لتقترب بمنتجاتنا من شبكة الإمداد العالمية.
لقد كان الأداء القوى للصادرات الأمريكية على سبيل المثال العامل الأساسى فى مضاعفة إنتاج الصناعات التحويلية على مدى العقدين الأخيرين.
التجارة الخارجية جزء عضوى من عالم القرن الواحد والعشرين ولا يجب أن نهملها. إن التجارة الخارجية النشطة واتفاقيات مصر مع الدول المختلفة تستطيع أن تحقق لمصر المعجزات.
ونحتاج لزيادة الصادرات، ليس بمناشدة المصدرين الحاليين أعضاء المجالس التصديرية، وإنما بتوسيع قاعدة المصدرين، وتوسيع عدد المنتجات التى يتم تصديرها، وأنواع المنتجات التى يتم تصديرها.
كما نحتاج لضبط فاتورة الاستيراد بوقف مؤقت لاستيراد كل ما يمكن وقفه دون أن يعطل عملية الإنتاج.
عندما نتحدث عن الصناعة أحيانا فإننا نتحدث عنها بمعزل عن التجارة، فى حين أن التجارة الداخلية والخارجية هما أحد المحركات الأساسية لنمو الصناعة. إلا أنه بسبب ضعف القوة الشرائية، وتدنى مستوى الدخول للغالبية العظمى من المواطنين فإن التجارة الداخلية تعجز عن تحريك نمو الإنتاج الصناعى، مما يعنى أن تنمية الصادرات الصناعية وإحداث طفرات متتالية فيها، وضمان تنافسيتها جودة وسعرا والتزاما بمواعيد التسليم، هى القادرة على دعم نمو الصناعة، ودعم جودة المنتجات بالمواصفات العالمية، وترقية مهارات العاملين.
كذلك فإن التصدير المعتمد على التكنولوجيا المتقدمة يتيح للصناعة المصرية الانضمام بفاعلية للاقتصاد العالمى، من خلال الربط مع سلاسل الإمداد بالأسواق المستهدفة وسلاسل خلق القيمة المضافة والتى أصبحت عامودا فقريا للتجارة الدولية، مما يقود فى النهاية لزيادة القدرة التنافسية للمنتجات الصناعية المصرية.
وفيما يتعلق بالاستثمار الأجنبى المباشر وعلاقته بالتجارة الخارجية فقد لوحظ مثلا فى النموذج الصينى أن نمو الواردات أدى إلى نمو فى الاستثمار الأجنبى المباشر من بلد ما والذى أدى بدوره الى نمو فى الصادرات.
وننادى هنا باتباع نفس مبدأ التعاون والتفاوض الثنائى بين مصر والشركات الأجنبية ولكن شركة شركة.
ورغم اعتقادى فى أهمية الاستثمار الأجنبى المباشر وحاجتنا له، إلا أننى لست ممن يبالغون بانتظار الجنة الموعودة على يد المستثمرين الأجانب، ما هو أكثر أهمية هو أن ننشغل بجذبنا للاستثمار الداخلى والأجنبى ولكن فى مشروعات محددة بعينها ونريدها وتتكامل مع الصناعة المحلية.
5: قد يسأل سائل وماذا عن السياحة؟ السياحة قطاع مهم جدا، لا غنى لنا عنه، وعندما تكون السياحة فى صحتها، فإنها تضيف للناتج المحلى الاجمالى، وتوفر نقد أجنبى، وتوفر فرص عمل. ولكن كما رأينا من تجارب الماضى، السياحة سريعة التبخر، ( طلقة رصاص واحدة غادرة وجبانة فى ظل تآمر غربى على مصر ورغبة فى محاربة وتعطيل تقدمها، تؤدى الى تطاير دخل السياحة ربما لسنوات ) .
ستعود السياحة إن شاء الله وبقوة، وستتحسن أحوال التجارة العالمية وتزيد من دخل قناة السويس، وسيصب الاثنان فى زيادة الدخل من النقد الأجنبى.
ذلك مع عدم تجاهل ما نبه إليه عدد من كبار الكتاب والخبراء النابهين يأتى فى مقدمتهم الكاتبان المدققان د.طه عبدالعليم ود. محمد عبد الشفيع من مخاطر ركون الاقتصاد المصرى واعتماده على الإيرادات الريعية من النقد الأجنبى . والقصد مخاطر الاعتماد على الصادرات المتقلبة للخدمات مثل الدخل السياحى الذى تأثر بجرائم الارهاب، أو إيرادات القناة التى تأثرت بركود التجارة العالمية، أو تحويلات العاملين فى الخارج التى تأثرت بانخفاض أسعار النفط، إضافة إلى ضغوط دولية وإقليمية لا تخفى لإفشال مصر وتركيعها. وليس القصد هنا أن هذا يغنى عن ذاك، ولكن لتأكيد أن الصناعة غير قابلة للتبخر والتطاير، إنها راسخة وفرص عملها مستدامة.
تصنيع مصر وتجارتها الخارجية معا هما طوق النجاة لمصر من قلة فرص العمل، ومن أزمات النقد الأجنبى، وهما طريقنا لمستقبل واعد مشرق إن شاء الله. وفى نفس الوقت يعظمان جدوى المشروعات الضخمة للرئيس السيسى فى العمران والبنية الأساسية.