أنشأ الله الكون على التعدد والتنوع، والاختلاف فى الصور والأشكال، وكذلك فى الجواهر والمضامين، وذلك لحِكَمٍ متعددة، منها : الدلالة على عظمته سبحانه فى خلقه، ولتتكامل تلك الأشياء المختلفة، إذ اختلاف الخصائص يؤدى إلى تنوع الوظائف، ومن ثم يحتاج كل مخلوق إلى من يكمل حاجته ويقضى مراده، ومن الحِكَم أيضًا العالية فى هذا الصدد أن يتفرد الخالق سبحانه وتعالى بالوحدانية فى كل شىء: فى ذاته وفى أفعاله وفى أسمائه وصفاته، إذ هو الغنى والخلق كلهم فقراء، كما قال عز وجل : ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إلى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِى الْحَمِيدُ)( فاطر : 15).
إذًا فمن رحمة الله تعالى بالخلق أن نوَّع فى خَلْقهم البيولوجى العضوى، كما قال سبحانه : (وَمِنْ آَيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ أن فِى ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ) ( الروم : 22 )، وقوله تعالى : ( أَلَمْ تَرَ أن اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهَا وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ. وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ أن اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ) ( فاطر : 28،27 ).
وكذلك من رحمته سبحانه اختلاف العقلاء منهم فى التفكير والمنهج والاعتقاد والديانة، وفيه قال تعالى: (وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ. إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ) (هود : 118،119)، وهذه سُنَّةٌ كونية ربانية يقوم عليها الكون، وهى سنة حاكمة ودائمة فى الخلق إلا أن يشاء ربى شيئا، ومن ثم يجب التعامل مع هذا القانون الربانى بإيجابية، وبما ينفع الخلق ويهذب النفس ويدعو إلى التعايش والتعاون والتكامل فيما فيه مصلحة هؤلاء العقلاء على الأقل فى الدنيا والأكمل فى الدنيا والآخرة.
ومن هذا المنطلق ينبغى أن نتعلم: " كيف ندير الاختلاف بيننا؟"، والمفتاح الناجع والنافع فى هذه الإدارة أن نتيقن أن كل اختلاف يجب توجيهه إلى اختلاف تنوع وتعدد وإثراء، وليس اختلاف تناقض وصراع وعنف وإراقة دماء.
والسؤال هنا : هل كل اختلاف يمكن أن يكون خلاف تنوع حتى لو كان فى أسس الاعتقاد ؟.
والإجابة : نعم، إذا ترسَّخ ما قررناه سابقًا سَهُلَ علينا أن نجعل كل اختلاف بيننا كأفراد أو دولة أو أمة هو ميزة لنا وليست علينا، كيف ذلك ؟.
بالنسبة لما نحن بصدد معالجته من الشأن الدينى والاختلاف فيه، فإن هذا الاختلاف إما أن يكون فى الثوابت بين فئات المجتمع ممن ليسوا على دين واحد، وإما أن يكون فى المتغيرات بين أبناء الديانة الواحدة.
وبخصوص النوع الأول - وهو الاختلاف فى الثوابت للتغاير بين الأديان – فإنَّ ما ذكرناه من سُنَّة الله تعالى فى كونه من ضرورة وقوع الاختلاف بين البشر فيما يعتقدون كفيلٌ بأن يُهَدِّئ من رَوْع الخائفين على دينهم أو حتى الطامحين لنشر ديانتهم لدى الآخر الذى يسكن معهم فى وطن واحد أو يجاورهم فى أوطان أخرى، فضلًا عن أن ديننا الحنيف لا يُكْرِه أحدًا على الدخول فيه، حيث يقول تعالى: ﴿لا إِكْرَاهَ فِى الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الغَيِّ) [البقرة: 256]، بل تعجب القرآن من محاولة فعل ذلك وأورد الإرشاد الربانى للأمة فى شخص رسولها محمد صلى الله عليه وسلم، فقال: (وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَن فِى الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّىٰ يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ) [يونس: 99]، حتى الخائف الفارّ من الموت واللاجئ إلينا أمرنا الشرع الشريف أن نكون ملاذًا له، وإن شاء عرضنا عليه ديننا ليتعلم شيئا جديدًا لم يصل إلى مسامعه قبل ذلك، دون جَبْرٍ أو إكراه، فإن وَجَدَ فيه بُغْيتَه دخل فيه، وإلا فلنتركه وما يريد، بل أُمِرْنا أن نصحبه حتى يصل إلى المكان الذى يأمن فيه على نفسه وكرامته وماله، وهو ما جاء مُحْكَمًا وفى غاية الوضوح والنقاء فى قوله تعالى: (وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّىٰ يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ)[التوبة: 6]، وهنا تكون الدائرة الواسعة التى تجمعنا به هى الهوية الإنسانية بما تحويه من فطرة وقِيَم، فإن كان شريكا معنا فى الوطن فسوف تتداخل دائرة ثانية تقرِّبه منا وهى دائرة المواطنة والهوية الوطنية بما فيها من وطن ولغة وعادات وثقافة مشتركة، وإن أضيف إلى ذلك كونه من ذوى الديانات السماوية زادت دائرة أخرى من القواسم المشتركة وتوطدت العلاقة واللُحْمَة معه وصار يجتمع معنا فى أشياء من الأمور الدنيوية ومثلها من الأمور الأخروية، ولكل من هذه الهويات المتداخلة حقوق ومسئوليات يجب مراعاتها عند التعامل فى داخل الوطن وخارجه.
أما النوع الثانى – وهو الاختلاف فى المتغيرات – فالأمر فيه أوسع وأرحب، إذ هذه المتغيرات هى الدليل القاطع على مرونة الشريعة الإسلامية وصلاحها لكل زمان ومكان ولكل الأشخاص والأحوال، وهى مدخل للتعامل مع الواقع والتفاعل معه ومسايرة مقتضيات ومعطيات كل عصر بما لا يخل بالهوية المتمثلة فى الثوابت الدينية والوطنية، والتى يمكن أن نسميها بلغة العصر " النظام القانونى والآداب العامة ".
والاختلاف فى هذه المتغيرات هى ما ورد فى عدم ذمه النصوص الشرعية، قولا كانت أو فعلا، فالقول مثل ما ورد فى بعض طرق الحديث : "اختلاف أمتى رحمة"، وفى رواية : "اختلاف أصحابى رحمة"(رواهما الإمام البيهقي).
وفعلا وتطبيقا كان هذا النوع من الاختلاف فى زمن النبى صلى الله عليه وسلم واطلع عليه وأقره، ففى سنن أبى داوود عن قزعة قال : خرجنا مع النبى صلى الله عليه وسلم فى رمضان عام الفتح فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصوم ونصوم حتى بلغ منزلا من المنازل فقال : "إنكم قد دنوتم من عدوكم و الفطر أقوى لكم، فأصبحنا، منا الصائم ومنا المفطر، وقد اختلف الصحابة فى فهم هذا الحديث، فمنهم من فهم منه الفطر وتمسك به بناء على أن فطره يزيده قوة وأن صومه يؤدى به إلى الضعف، وفهم آخرون منه الصوم وتمسكوا به بناء على أن صومهم لا يضعفهم و فطرهم لا يزيدهم قوة، ولم ينكر النبى صلى الله عليه وسلم على أى من الفريقين فهمه فدل على أن مثل هذا الاختلاف مشروع.
بمثل هذا الفهم الراقى والحضارى الذى قرره الإسلام بمصدرَى وحيه (القرآن الكريم والسنة الشريفة) وشهد به واقع المسلمين عبر التاريخ، نحافظ على الهوية الدينية والثقافية والوطنية ولا نغيب عن واقعنا والقيام بواجب وقتنا فى بناء الإنسان بل والحضارات، من خلال التعايش السلمى والتكامل الإنسانى.
وهذا هو معيار الاختلاف المحمود وغيره من الاختلاف المذموم، فالأول يبنى ولا يهدم، ويجمِّع ولا يُفَرِّق، ويُعَمِّر ولا يُدَمِّر، ويجعلنا نرتقى فى إدارة اختلافاتنا بما فيه مصلحة الإنسان ولا يخرج عن مقصود الشرع الشريف، ويحقق قوله تعالى: (وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإثْمِ وَالْعُدْوَانِ)[المائدة: 2].
عدد الردود 0
بواسطة:
الشعب الاصيل
الاختلاف
واذا كان الاختلاف نتيجته القهر والبطش ..ماذا نعمل