ما أقسى الموت وما أصعبه، نحكى عنه أو نتجنبه، لكنه يظل كامنًا خلف كل شىء، خلف الحياة، يرسل طوال الوقت مؤشراته المقلقة التى تثير الخوف فى النفوس، وهذه المرة فعلها واختطف واحدًا من الأصدقاء، التقيته مرة واحدة فى حياتى، لكن ملامحه ظلت محفورة داخلى «بسیونى بسیونى عبد القادر».
كان بسيونى يصغرنى بأعوام، وكان صديقًا لأخى، عندما قابلته منذ أكثر من 10 سنوات، قال لى بأنه سعيد لأنه يعرف أخى ويصادقه، فأعجبنى ذلك، وتمنيت أن أرى ذلك فى عيون أصدقائى مات «بسيونى» لا أعرف كيف، ورثاه آخى قائلًا «بكل الضوضاء اللازمة التى يحدثها طوله الفارع وروحه الجميلة المنطلقة، زارنى فى مسكنى الطلابى، لأنه لم یرنى منذ یومین ، نعم یومین فقط، لذا قلق وجاء مستفسرًا عن عدم ظهورى فى الجامعة فوجدنى مريضًا بشكل صعب».
وضع يده على جبهتى ولم یتحدث، بل استدار وخرج مسرعًا، مر وقت طويل نسبيًا قبل أن يعود حاملًا كوبًا من الزنجبیل الساخن.
حدثنى، ولم يكن ممتنًا لما فعله، أن مقهى وحیدًا بجوار محطة القطار، هو الذى وافق العاملون فیه على التنازل عن كوب زجاجى مؤقتًا، ممتلئًا بالزنجبيل، وطالبنى باحتسائه وخرج مسرعًا أيضًا لكن هذه المرة وعدنى بالعودة.
رغم مرور سنوات لم أستوعب حتى الآن كیف حمل «بسیونى» كوب الزنجبیل من المقهى الموجود بالقرب من محطة القطار إلى محیط الجامعة، وهى مسافة یعلم من یعرف أسیوط ولو زائرًا، أنها لیست قریبة، وأتخيله وهو يمر بعشرات المقاهى التى رفض أصحابها طلبه الغریب.
بعد وقت قصير عاد بسيونى حاملًا بعض متعلقاته، معلنًا لى أنه قرر الإقامة معى، لأنه علم أن زملائى فى السكن عادوا إلى قراهم القریبة، خشیة على أنفسهم من عدوى «البرد الشديد» الذى أصابنى.
استدعيت هذا الموقف ولن أقول تذكرته لأننى لم أنساه یومًا، حینما قرأت لدى صدیق مشترك أن بسیونى بسيونى عبدالقادر توفى منذ عدة أشهر.
وجدتنى حائرًا لا أفهم شيئًا، أتعجب من نفسى ومن أشياء أخرى، لا أتخيل أن بسیونى الذى تفقدنى بعد غیاب یومین فقط أعلم بوفاته مصادفة بعد مرور ما یقرب من سبعة أشهر.
وداخل حزنى عليه تذكرته مغامرًا حقیقیًا وشابًا طموحًا مجتهدًا عمل فى الداخل وفى الخارج وفى مهن متعددة، وتذكرت أننى لم أستطِع مساعدته فى تحقیق أمنیته فى أن یعمل بانتظام فى مجال دراسته، لم یدخر جهدًا فى مساعیه لذلك، ولم أنجح فى مساعدته ولم تخطر على بالى مطلقًا وفاته المبكرة فقد كان مستبشرًا ضاحكًا مليئًا بالأحلام والطموحات، كان إنسانًا محبًا للحیاة، لا یكن ضغینة أو كراهیة أو حقد لأحد.. كان رحمه الله صدیقًا یفیض محبة وإخلاصًا وجدعنة.. وداعًا صدیقى العزیز بسیونى بسیونى عبد القادر، وآسف جدًا لأنه «مخطرش فى بالى حكاية الموت».