جاءه قومه يوم فتح مكة صاغرين منكسرين فقال لهم قولته العظيمة: «اذهبوا فأنتم الطلقاء»
يقف الرسول، صلى الله عليه وسلم، العابد الأواب، الخاشع المحب للصلاة بين يدى ربه، يتلو سورة طويلة من القرآن، يتأمل آياتها واحدة بعد الأخرى، يمنّى نفسه بلحظات رائعة يخلو فيها بربه، متدبرًا آياته، ولا تمر دقائق حتى يسمع بكاء طفل رضيع كانت أمه تصلى خلف الرسول، صلى الله عليه وسلم، فى المسجد، فيقدم الرحمة بالصبى الصغير الذى قد يبكى جوعًا أو عطشًا، أو لأن بعوضة لدغته، أو لأن البول والبراز يؤذيه، ويقدم الرحمة بأمه التى تتمزق نفسها بين رغبتها فى إجابة ربها فى الصلاة، والتمتع بصوت النبى الرائع الذى يقرأ القرآن غضًًا طريًا، وكأنه نزل لتوه من السماء، وبين إجابة بكاء ونداء وليدها الذى لا يحسن إلا لغة البكاء، فيختصر النبى الرحيم صلاته، وينهى سريعًا لقاءه بربه ومولاه، وينهى راحة نفسه التى يجدها فى الصلاة وفى تدبر القرآن، وقد عبّر النبى عن هذه الحالة الإنسانية العظيم بقوله: «فأتجاوز فى صلاتى مخافة أن أشق على أمه». لو كان يؤم الناس إمام غير رسول الله، صلى الله عليه وسلم، لوبخ هذه المرأة وكل المصليات معها، ولأمر بعدم إحضار الأطفال الصغار الذين يقطعون الصلاة ببكائهم.
إننى أجد عادة معاملة فظة وغليظة من خدم وعمال المساجد للأطفال الذين يرتادون المساجد، وتتراوح معاملتهم للأطفال عادة بين الزجر والشخط والتهديد والوعيد والطرد من المسجد لمجرد أن هؤلاء الأطفال قد يلعبون أو ترتفع أصواتهم فى المساجد، أو يمزحون قبل الصلاة أو بين الصلوات. وكم من مرة أنقذت أطفالًا من بين براثن هؤلاء العمال الذين ينفرون الأطفال من المساجد، وأقول لهؤلاء العمال دائمًا تعلموا من عمال الكنيسة كيف يستقبلون الأطفال ويتعاملون معهم، أنتم موظفون ولستم أصحاب رسالة، ولذلك رسالة المسجد الحكومى عندنا فاشلة، لأنها روتينية بيروقراطية، يهمها إرضاء المفتش والدوران حول الراتب والعلاوة وليس الدوران حول الشريعة والدين وخدمة الدعوة الإسلامية. وقد تعودت أن أعطى أصغر طفل يصلى إلى جوارى فى المسجد جنيهًا حتى يحب المساجد ويألف أصحابه، وأحيانًا ينظر الطفل إلى أبيه قبل أن يأخذه، فيشير إليه بالقبول، وأنصح دائمًا فى دروسى بأن يخصص كل مسجد هدايا بسيطة للأطفال الذين يأتون للصلاة.
يرى الرسول، صلى الله عليه وسلم، جثة عمه حمزة بن عبدالمطلب، أسد الله وأسد رسوله، وأكثر من دافع عن النبى فى مكة والمدينة معًا، يرى جثته ممزقة مقطوعة الأذنين، مجدعة الأنف، مبقورة البطن، وعلم يقينًا أن المشركين قد مثلوا بجثته بعد موته انتقامًا منه لشجاعته، ودوره العظيم فى نصر بدر، فيغضب رسول الله، صلى الله عليه وسلم، كما يغضب البشر، ويتوعد بأنه سيقتل مقابل عمه سبعين من المشركين، ولكن القرآن العظيم يصوب غضب النبى، ويحول بينه وبين الثأرات الشخصية، ويذكره بأنه رسول ينبغى عليه العدل إن لم يكن الإحسان والعفو، فتنزلت آيات القرآن العظيم «وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُم بِهِ وَلَئِن صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِّلصَّابِرينَ وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلاَّ بِاللّهِ».. امتثل الرسول لأمر القرآن العظيم دون غضاضة، هاتفًا بقلبه ولسان حاله: سمعًا وطاعة يا ربى ومولاى وخالقى.. صحح القرآن الاجتهاد البشرى للرسول الذى جاء فى لحظة غضب بشرى، وذكر القرآن رسوله بحدود العقوبة، وأفضلية الصبر والعفو.
دارت الأيام دورتها، وشهدت معارك كثيرة بين مشركى قريش وجيوش الرسول، صلى الله عليه وسلم، توجها جيش النبوة بالفتح الأعظم «فتح مكة»، ودخل الجند المؤمن مكبرًا ومهللًا «قل جاء الحق وزهق الباطل، إن الباطل كان زهوقًا».. دخل رسول الله، صلى الله عليه وسلم، مكة متواضعًا مطأطأ رأسه حتى كادت أن تطأ عنق الراحلة من شدة تواضعه، فلم يدخلها بشموخ القادة المنتصرين الذين يسعدون بمناظر القتل والحرق وإذلال الخصوم، جاءه قومه صاغرين منكسرين، بينهم الذين قتلوا حمزة عمه، وبينهم الذين عذبوا عمار بن ياسر وقتلوا أباه وأمه، وبينهم الذين شتموه وآذوه من قبل، وبينهم، وبينهم، لم يعيرهم بما فعلوه معه ومع أصحابه، ولم يذكرهم بالماضى، لم يعمل سيف الانتقام فيهم، لكنه استعار قولة يوسف عليه السلام، رمز الإحسان حينما وقف إخوته عنده صاغرين منكسرين «لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ»، وأكملها بقولته العظيمة التى كتبها التاريخ بأسطر من نور: «اذهبوا فأنتم الطلقاء»، إن هذه الكلمة تستطيع وحدها أن تملأ الدنيا كلها بنور العفو، وأضواء الرحمة، ومطر العفو والصفح.