فى عودة لعصر الدجل والسحر والشعوذة من جديد، ولكن هذه المرة على جناح الفضائيات، أصابتنى بالدهشة والذهول دراسة حديثة لمركز الدراسات الاقتصادية المصرى، تؤكد أن الإنفاق على أعمال السحر والشعوذة فى مصر يمثل المرتبة الخامسة فى حياة المواطن، فالإنفاق على تعليم الأبناء يمثل 45% من إجمالى دخل الأسرة، و12% على المحمول و15% على الغذاء، وباقى النسبة يتم إنفاقها على السحر والشعوذة والدجل.
هؤلاء السحرة الجدد، تخصصوا فى تصدير أوهام جلب الحبيب وموافقة الأهل على الخطيب ورد الغائب وتزويج العانس وفك السحر والمس والعين، وجلب الرزق وزيادة القدرة الجنسية، فبحسب الدكتور عادل عامر، الخبير القانونى ورئيس مركز المصريين للدراسات السياسية والقانونية، صاحب هذه الدراسة الكاشفة، فإن برامج شهيرة وقنوات مصرية معروفة خصصت ساعات لتسليط الضوء على ظاهرة الجان والعفاريت، وسرعان ما تحولت إعلانات الشيوخ الوهميين إلى طوق نجاة مزيف لكل من لديه مشكلة نفسية أو مالية أو أسرية، واستغلت الاستعداد الفطرى لدى الإنسان لكشف ما وراء الطبيعة.
إنهم رجال ونساء يمارسون هذه المهنة تحت وطأة الأزمة الاقتصادية للأسف، أغلبهم يرتدون ثوب المشايخ يمارسون حيلهم ليس فقط على البسطاء، بل حتى على المتعلمين وصفوة المجتمع فى ظل غياب الوعى الدينى، وأبرز زبائنهم نجوم الرياضة والفن والسياسة، ينفقون حوالى 15 مليارات جنيه سنوياً على أعمال الدجل والشعوذة، والعذر هنا ربما يبدو مقبولا للفقراء جراء ارتفاع معدلات الجهل والأمية، ولكن المحزن أن أصحاب الطبقة الراقية سقطوا فى ذات الفخ!، خاصة أن الدراسة تؤكد أن تلك القنوات روجت بالفعل لـ274 خرافة تسيطر على سلوك أهل المدن والريف، كما أشارت إلى وجود 350 ألف شخص يزعمون قدرتهم على علاج الأمراض عن طريق تحضير الأرواح، و300 ألف آخرين يزعمون علاج الأمراض والمس من الجان بالقرآن والإنجيل، والأخطر فى الدراسة هو كشفها عن وجود حوالى مليون مصرى على الأقل يعتقدون أنهم ممسوسون بالجن.
هذا الكلام بطبيعة الحال يطرح سؤالا حول مشروعية تلك القنوات ومن المسئول عن مراقبتها، وما عقوبة ممارسة أعمال السحر فى القانون وهل القمر الصناعى نايل سات أصبح مباحاً أمام الجميع ليعرض من خلاله خرافات؟، خاصة أن إنشاء قناة تستطيع من خلالها بثت كل ما يحلو لك فأنت فى الخطوة الأولى تحتاج فقط إلى جهاز كمبيوتر موصل بخط تليفون أرضى، وسرعة إنترنت عالية وجهاز "بلاى بوكس" لاستخدامه فى شريط الرسائل الـ "sms"، أما الخطوة الثانية فهى الاتصال بقمر "يوتل سات" والذى ينطلق من فرنسا على مدار 7 درجات غرب وهى نفس مدار النايل سات ويغطى جنوب أوروبا والشرق الأوسط، وهو بالمناسبة يطلق "حرمى الأقمار"
ويبدو لى بحكم معرفتى بالتكنولوجيا، أن المسألة ليست سهلة للتحكم والسيطرة على تلك القنوات، فالصعوبة تكمن فى أنها تبث عبر خطوط هاتفية يصعب التشويش عليها، وعن طريق الإنترنت يتم إرسالها فوراً إلى القمر الصناعى يوتل سات، وهناك طرق أخرى لإنشاء ما يسمى بقناة "سلايد" وهى قناة للدعاية الإعلانية فقط وهى لن تكلفك سوى ألف دولار فقط، فضلا عن أن القانون الذى يطبق فى مصر من أجل مواجهة ظاهرة الدجل والشعوذة، هو قانون تم إصداره عام 1960، ومن ذلك الحين لم يتم تغييره ولم تجر عليه أية تعديلات ويتم التعامل مع هذه الجرائم بموجب المادة 336 من القانون، وكما يشير "عامر" فإن القانون ينص على أن ممارسة أعمال الدجل والشعوذة جنحة ومن يقم بذلك يعاقب بالحبس مدة لا تزيد على ثلاثة أشهر وبغرامة لا تزيد على 300 جنيه أو بإحدى هاتين العقوبتين.
وحتى إذا ما ارتبطت جريمة القيام بممارسة أعمال الدجل والشعوذة بأى جريمة أخرى مثل النصب أو استغلال النفوذ فتكون العقوبة هى السجن بحد أقصى ثلاث سنوات، ومن ثم لابد من تعديل كامل وشامل لهذا القانون، لأنه أصبح غير ملائم للعصر الحالى، لأن فى الستينيات لم تكن جريمة الدجل والشعوذة منتشرة وتتم مزاولتها على الملأ مثلما يحدث الآن، فيجب رفع الحد الأدنى للعقوبة لتصل إلى السجن بحد أدنى 3 سنوات وبحد أقصى 7 سنوات، بالإضافة إلى تعديل نص القانون ليشمل جريمة الدجل والشعوذة عن طريق الوسائل الحديثة مثل الإنترنت ووسائل الاتصال الحديثة بكافة أشكالها.Top of Form
الأمر يبدو لنا جميعا غاية فى الخطورة، بعدما أوضحت الدراسة أن هناك دجالاً واحداً تقريباً لكل 240 مواطناً مصرياً تتم الاستعانة بهؤلاء الدجالين لكشف الغيب، كما خلصت إلى أن 50 %من النساء المصريات يعتقدن بقدرة الدجالين على حل مشاكلهن وأنهن الأكثر إقبالاً من الرجال، وأن 39% من المصريين يؤمنون بالخرافات والخزعبلات، ويمثل الفنانون والسياسيون والمثقفون والرياضيون منهم نسبة تصل إلى 11%، وهؤلاء يقع عليهم الجرم الأكبر، باعتبارهم قدوة لكثير من الناس، فبدلا من تناول مثل تلك الظواهر السلبية ومعالجتها فى أعمال درامية تحفز على الوعى وتنمية القدرات العقلية، راحوا فى غياهب المجهول، وساهموا فى سيادة الجهل فى قلب عصر العلم والتكنولوجيا.
بقدر ما أصابتنى هذه الدراسة بالصدمة، إلا أنها تعد بادرة طيبة فى دق ناقوس الخطر للذهاب إلى مناطق تعمى عنها القنوات الفضائية الرسمية والخاصة، التى تهيل علينا تراب الأزمات وشبح الإرهاب فى كل ليلة، بينما تسبح أعمال السحر والشعوذة فى فضاء فوضى قنوات أخرى - تنمو عشوائيا - لتبث هذه الإعلانات المضللة، من خارج مصر وليست داخل البلاد، ومن خلال أقمار على نفس مدار القمر الصناعى المصرى "نايل سات" لذلك يسهل التقاطها، وهو ما يلفت النظر إلى أن مجال صناعة الإعلام فى مصر من الملفات الخطيرة والمهمة والتى تحتاج إلى جهود كبيرة، خاصة إنه لا يوجد فى مصر قانون خاص بصناعة الإعلانات، بالإضافة إلى جهاز حماية المستهلك، الذى لا يمتلك الأدوات التى تمكنه من المتابعة والنقد للإعلانات الموجودة فى السوق لحماية المواطن المصرى فى غذائه ودوائه.
وعلى جانب آخر لا تزال المطابع والمكتبات العربية مشغولة بطباعة ونشر الكثير من كتب الدجل والشعوذة التى تحتل الأرصفة ورفوف المكتبات، أكثر من انشغالها بحركة التأليف العلمى الذى يخرج الأمة من ظلام الجهل والخرافة إلى نور العلم والتقدم، فى ظل وجود إحصاء للدكتور عادل عامر، يقول بأن لدينا 130 ألف شخص فى مصر يدعون علم الغيب وقراءة الكف والفنجان، كما يؤمن 70% من المصريين بقدراتهم الخارقة فى معرفة ما يخبئه لهم القدر من أحداث، فضلا عن قدرات أخرى منها علاج المرضى بالأرواح، وأن 31% من المصريين بينهم من يحتل المناصب العليا يؤمنون بتقمص الأرواح وأن الاعتقاد بالجان والعفاريت أصبح من المعتقدات الأساسية فى حياة بعض المصريين الذين يعتقدون بسيطرة الجن على تصرفاتهم.
يبقى الواقع المؤلم، أن ممارسى السحر يخلطون بين السحر والدين ويزعمون أن لهم القدرة على علاج الأمراض، وأن هناك ما يقرب من 300 ألف شخص فى مصر يدعون علاج الأمراض بتحضير الأرواح، وأن هناك 250 ألفًا - أى ربع مليون دجال - يمارسون انشطة الشعوذة فى عموم الدول العربية، وأن العرب ينفقون زهاء 5 مليارات دولار سنويا على الدجل والشعوذة، وأن نصف نساء العرب يعتقدن بفعل الخرافات والخزعبلات، ويترددن على المشعوذين سرًا وعلانية. ولكن المهم لنا وهو الأجدر بالدراسة والتحليل، أن المصريين وحدهم وهم فى ظل أزماتهم الاقتصادية الطاحنة ينفقون نحو 15 مليار جنيه سنويا على الدجالين والمشعوذين والنصابين الذين يدعون قدرتهم على تسخير الجان وعلاج الأمراض والمشاكل الصحية والاجتماعية والاقتصادية.