الدراسة التى قدمها الباحث أحمد العيسى قدمت طرحا جديدا للتفوق السياسى الأمريكى، فأمريكا هى أحد الأعضاء الخمسة الدائمين فى مجلس الأمن الأهم فى الأمم المتحدة ومشكل قراراتها الرئيسية، وهى أهم عضو مؤسس فى حلف شمال الأطلسى «الناتو»، وتستخدمه فى فرض سيطرتها البحرية على عدد من أهم مناطق النزاع فى الشرق الأوسط وجنوب شرق آسيا، لكن الجانب الأهم لتوغلها ليس قدرتها على خلق التحالفات والتفاهمات السياسية بالترغيب أو الضغط، وإنما توغلها فى ميزانيات الدول المعنية بالعلاقات الاقتصادية المتشابكة أو المساعدات الحكومية أو المنظمات المدنية أو الكل فى بعض الحالات.
ويرى العيسى أن هذا الشكل من النفوذ الثلاثى يعطيها مرونة كبيرة فى الحركة والضغط على أنظمة الدول للتصرف بحسب مصلحتها الراسخة، أو استخدام أوراق دول للضغط على دول أخرى، بالطبع هى ليست بتلك القوة الخرافية وتواجه صعوبات فى سياستها الخارجية وتحديات صينية وروسية ولاتينية فى بعض الأحيان، لكنها تحديات يمكن السيطرة عليها بأقل قدر من الأضرار التى تتناسب عكسيًّا مع هذا النوع من الهيمنة وتقل بشكل مريح لأى إدارة أمريكية ديمقراطية أو يمينية محافظة.
فيما بعد الحرب العالمية الثانية كانت الولايات المتحدة تطبق على نصف اقتصاد العالم بمفردها قبل تراجع النسبة مع صعود تدريجى لأوروبا فى العقود التالية، على المستوى العسكرى كانت أحد قطبى العالم مع الاتحاد السوفيتى بحكم امتلاكهما لقوة الردع النووية مع أقوى جيشين حينها، لكن التعليم الأمريكى كان يواجه مشكلة حقيقية اتضحت بشدة فى أوائل عقد الثمانينيات من القرن الماضى.
قبلها مر التعليم الأمريكى بقفزة مهمة عندما أصدر الكونجرس الأمريكى فى عام 1958 وفى أوج صراع الفضاء مع السوفييت أحد أهم قوانين الولايات المتحدة الأمريكية وهو «قانون الأمن القومى للتعليم»، القانون الذى بموجه يتم تخصيص ميزانية معيارية تقدر بمائتين وخمسين مليون دولار لتحسين وتطوير التعليم فى مجالات «الرياضيات/ الفيزياء/ العلوم التقنية/ علوم الفضاء»، وهو مبلغ يوازى مليارات بموجب الوقت الحالى.
يمكن اعتبار عام 1982 هو نقطة التحول الحقيقية للتعليم الأمريكى، مما أدى إلى إحداث طفرة قادت الدولة إلى تسيد تكنولوجى امتد من التسعينيات إلى الآن، فى هذا العام وجد الأمريكيون أن طلابهم متأخرون بشدة فى الرياضيات والعلوم الطبيعية، وأنهم ينهزمون فى أغلب المسابقات الدولية التى يشتركون بها خصوصًا أمام طلبة اليابان وأوروبا وكوريا الجنوبية، وضع كهذا فهم المسؤولون أنه سيؤدى إلى تأخر على كل الأصعدة، لأن الرياضيات والفيزياء بالذات هما أساس أى تقدم تكنولوجى وتقنى، مما سيؤدى بالتالى إلى تراجع الولايات المتحدة عن مكانتها إن عاجلًا أو آجلًا.
رونالد ريجان الرئيس الأمريكى حينها أصدر قرارًا بتشكيل البيت الأبيض للجنة من ثمانية عشر شخصًا مثلوا صفوة الخبراء التعليميين والتربويين فى الولايات المتحدة، هذه اللجنة مكثت عامًا كاملًا تقريبًا ثم خرجت بأحد أهم وثائق التعليم فى التاريخ الحديث وهى «A Nation At Risk» أو «أمة فى خطر، هذه الوثيقة - أو بالأحرى التقرير - احتوت على ثمانٍ وثلاثين توصية تفصيلية لإعادة هيكلة التعليم الأمريكى بالكامل، أهم مشكلة ركز عليها التقرير كانت «تأهيل المعلمين»، لذلك أوصت اللجنة بدراسة أوضاع المعلمين ومشكلات وثغرات النظام الفيدرالى الأمريكى لحلها ومن ثم تحسين أوضاع المعلمين المادية والمعيشية وكفاءتهم التعليمية.
هذه المرحلة حددها خبراء أمة فى خطر بثلاث سنوات على الأقصى، بدأت بعد إصدار التقرير مباشرة فى 1983 وانتهت فى عام 1986، حددت فيها المشكلات ثم بدأت خطوات حلها سواء بتغييرات جذرية فى النظام أو بابتكار اختبار الكفاية الأمريكى للمعلمين، وهو اختبار متعدد المراحل لتقويم وتقييم المعلمين، وبعدها بعامين وفى 1988 كان الاختبار مطبقًا فى أربع وأربعين ولاية أمريكية مع هيكلة أدت لرفع دخل المعلم. بعدها كانت المرحلة الثانية «تغيير المناهج»، واستمرت فى أساسها لأوائل التسعينيات، وكانت معنية بتغيير مناهج الرياضيات والفيزياء والكيمياء لمواكبة تقدم الدول الأخرى فى هذه المجالات.
عن طريق التعليم العالى الذى تأخذ فيه الولايات المتحدة المرتبة الأولى عالميًّا منذ أكثر من عقد، فهى تمتلك متوسط من 28–30 جامعة من ضمن أفضل مائة جامعة فى أغلب التصنيفات العالمية، وتمتلك ست جامعات من أفضل عشر جامعات فى العالم، ومنها أفضل معهد تكنولوجى وهندسى وهو «ماساتشوستس».
التعليم الجامعى فى الولايات المتحدة مرتفع الثمن فى كليات النخبة التى يبلغ متوسط تكاليف الدراسة فيها مبلغًا يقارب الثمانين ألف دولار للبرنامج الواحد، هناك بعض الجامعات مثل «هارفارد» تتعدى فيها تكلفة دراسة برنامج إدارة أعمال واحد المائة ألف دولار، أما بقية الجامعات فتتراوح بين مبالغ من 10 آلاف دولار للجامعات الصغيرة إلى 40 ألف دولار أو أكثر للجامعات المتوسطة.. وغدا نواصل نشر أسباب التفوق الأمريكى على العالم كله.