منذ وصولى إلى العاصمة الأمريكية واشنطن وأنا أحاول فك سيكولوجية الشعب الأمريكى المتعدد الأعراق والديانات والأجناس والقوميات.. كل أنواع البشر تعيش على أرض الأحلام ورغم ذلك جميعهم يكتسب طباعا أخرى غير التى جاء بها أجداده أو آباؤه أو هو نفسه لو كان مهاجرا، أكثر من عشرين ساعة، وأنا أقرا فى كتاب للباحث العربى الدكتور محمد أحمد النابلسى الأمين العام للاتحاد العربى للعلوم النفسى وعنوانه التحليــل النفســى للشخصيــة الأمريكيــة وفيه قدم الرجل بحثا رائعا عن هذه الشخصية فقال الباحث: خلف سقوط الاتحاد السوفيتى فراغا عالميا جعل الولايات المتحدة اللاعب الرئيسى فى العالم. بما أغرى رئيسها جورج بوش بإطلاق مصطلح النظام العالمى الجديد لتأكيد سطوة الولايات المتحدة وجبروتها العسكرى الذى كرسته حرب الخليج الثانية التى ذهب البعض لاعتبارها الحرب العالمية الثالثة، استنادا إلى عدد الدول المشاركة فيها وإلى كمية الأسلحة المستخدمة خلالها، وعلى الرغم من الإحراجات الدبلوماسية والأخلاقية التى سببها قرار الحرب الأمريكى فإن الجبار الأمريكى لم يتوقف عن الشكوى. وتركزت شكاويه على الأمور التالية بصورة خاصة:
1 - أنه لا يحظى بنفوذ سياسى يتناسب وتفوق قدراته العسكرية، بما يعكس عدم كفايته بالرغم من قدرته على جر دول عديدة إلى تلك الحرب بضغوطات نفوذه وقوته الاقتصادية والعسكرية والسياسية، فقد كانت كل من فرنسا وروسيا تبذلان المستحيل من الجهود لمنع هذه الحرب، ليس فقط لإضرارها بمصالحهما، ولكن أيضا لوعيهما أن هذه الحرب هى حاجة أمريكية وليست ضرورة دولية أو إنسانية أو غيرها، ناهيك عن حرج الدول العربية بالمشاركة فى حرب أمريكية ضد دولة عربية، خاصة بعد الرفض الأمريكى لمحاولة إيجاد مخرج عربى للأزمة.
2 - إنه يبحث عن عدو ولا يجده حتى بدا الأمر وكأنه يطالب العالم بتقديم ضحية ليتسلى الجبار افتراسها وممارسة جبروته عليها، وفى غياب هذه الضحية راح الجبار يتسلى بالحروب الصغيرة وبالحصارات متعددة الدرجات ومعها تصنيف دول العالم إلى تابعة ومارقة، وفى ذلك الإعلان عن عدم وجود حالة وسطية.
3– إنه يواجه عقبات فى وجه عولمة نظامه القيمى الذى يرى الجبار الأمريكى أنه أثبت نجاحه ليصبح سيد العالم دون منازع، فإذا ما فشلت العولمة فى مجموعة كبيرة من الدول المتعولمة والمستسلمة لشروط الأمركة رد الجبار هذا الفشل إلى الفساد والتخلف فى هذه الدول، وليس إلى عدم صلاحية نظامه للعولمة.
4 - إن بعض تطبيقات العولمة تضر بالاقتصاديات الأمريكية مما يعطى للجبار الحق بتجاوز العديد من قوانين السوق ومنظمة التجارة العالمية. لكن هذا الحق بالتراجع لا يمتد إلى أية دولة أخرى مهما بلغ شأنها وقوتها العسكرية، حتى لو أدى الأمر إلى معاناة شعبها من المجاعة كما حصل فى روسيا.
هذه هى باختصار المظالم الأمريكية التى جعلت الولايات المتحدة تبرر تجاوزاتها لمبادئها الليبيرالية، لتخوض صراعات مثل حرب كوسوفو ولتفرض الحصار على مئات الملايين من البشر، بل إنها أجبرت الاتحاد الأوروبى على اتخاذ الخطوات الكفيلة بالقضاء عليه وعلى إمكانيات تطويره، وكان ذلك عبر التعديلات الاستراتيجية المدخلة على ميثاق حلف الناتو التى بدأت طلائعها مع إعلان بوش الابن عن إصراره على مشروع «الدرع الصاروخى الأمريكى» ولما يمضى شهر على دخوله البيت الأبيض
هذه المظالم تقودنا إلى السيكولوجيا وإلى الحديث عن العقل الجمع المنتج لهذه السياسات والمواقف؟ ليصدمنا هذا السؤال بواقع التعددية الأمريكى الذى يجعل من المجتمع الأمريكى تجمعا أشبه بالموزاييك الذى يتطلب أولا السؤال عن المواد اللاصقة لأجزائه والجامعة بين جماعاته. وهو السؤال الأصعب! فعلى الرغم من وجود جواب سهل وجاهز يتمثل بالوفرة الاقتصادية «متوسط الدخل الأمريكى 35 ألف دولار سنويا»، فإن الموضوعية تقتضى تحرى أجوبة أخرى، فالوفرة المادية قد تكون المادة اللاصقة الأساسية للموزاييك البشرى الأمريكى، إلا أنها ليست الوحيدة فماذا عن بقية المواد؟
إن معرفة المواد اللاصقة الأخرى غير ممكنة بالنظر إلى المجتمع الأمريكى من الخارج، إذ إن هذا المجتمع يختلف بصورة كلية عندما ننظر إليه من داخله عنه عندما ننظر إليه من الخارج، ففى الداخل الأمريكى رفاهية نفسية تضاعف الأثر اللاصق لتلك المادة، فالحرية الأمريكية لا تقف عند حدود ممارسة القناعات الخاصة، بل تتعداها إلى التحرر من قيود الآخر لدرجة اللامبالاة به، وذلك على عكس المجتمعات التقليدية حيث يكون الفرد أسيرا لرأى الآخر، ومقيدا بالنظم الرمزية للجماعة وقيمها، بما فيها تلك التى تتعارض مع قناعاته ورغباته، بما يجعل الفرد يحس أحيانا بالاغتراب داخل جماعته، أما المجتمع الأمريكى فيقدم للفرد حرية شخصية فى حدودها القصوى، وهذا ما يعطى للمجتمع الأمريكى قدراته التذويبية الفائقة التى تصهر المزيج الثقافى الهائل التنوع فى موزاييك المجتمع الأمريكى، فإذا أردنا أن نعطى مثالا على اللامبالاة والتحرر من قيود الآخر فإننا نأخذ المقابلة التى أجريت مع الرئيس بوش الابن عندما كان مرشحا، ففى تلك المقابلة الشهيرة كان بوش نموذجا للمواطن الأمريكى العادى الذى لا يهتم بما لا يعنيه. ومن هنا فشله فى الإجابة عن أسئلة من بديهيات السياسة. وهو فشل فضائحى بالنسبة إلى مرشح لرئاسة القطب العالمى الأوحد. ومن الأمثلة أيضا ذلك الإحصاء الذى بين أن %80 من الأمريكيين يعتقدون أن باكستان وإيران هى دول عربية! وقس عليه. وإن شاء الله غدا نواصل تشريح الشخصية الأمريكية.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة