مازال كثيرون من المصريين والعرب لايعرفون حقيقة الجيش، رغم أن حقائق التاريخ القديم والحديث ووقائع ومعطيات الحاضر تؤكدا صدق من لا ينطق عن الهوى "سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم" الذى شهد لجند مصر - قبل أربعة عشر قرناً وأكثر من الزمان - بأنهم خير أجناد الأرض وأنهم فى رباط إلى يوم الدين، وما أن يشكك البعض فى ذلك حتى تأتى الوقائع المتساندة لتؤكد تحقيقها ومصداقيتها ، وعليه تأتى تصريحات اللواء أحمد العسيرى ، المتحدث باسم قوات التحالف لدعم الشرعية فى اليمن مجافية تماما للعقل والمنطق الحكمة ، بقوله إن الرئيس عبد الفتاح السيسي عرض على الحكومة السعودية أن ترسل مصر من 30 إلى 40 ألف جندى كقوات برية فى حرب اليمن الجارية ، لأنها فى حقيقة الأمر تخالف ركائز العقيدة العسكرية التى يؤمن بها جيشنا الباسل فى كل مساعيه نحو الحفاظ على التراب المصرى المقدس أولا وأخيرا .
والواقع أن هؤلاء وغيرهم لا يدركون جيدا أن الجيش المصرى على مدار تاريخه - منذ توحيد القطرين على يد الملك مينا عام 3200 ق.م - نذر نفسه للدفاع عن الحق والعدل والتراب المصرى، ولم يثبت فى الوقت ذاته أنه عمل لحساب غيره، مهما كانت وشائج القربى و النسب، بل إنهم لا يعرفون حقيقة أن هذا الجيش على مدار تاريخه جزء لا يتجزأ من شعب مصر العظيم، وأن من أسباب قوته وبأسه فى ساحات الوغى أنه لم يعتمد يوماً على المرتزقة الأجانب، وإنما اعتمد على المصريين أبناء هذه الأرض الطيبة ، فهو جيش الشعب ومن الشعب وإلى الشعب، فالجيش الذى قاده "أحمس" لطرد الهكسوس بعد احتلالهم لمصر عام 1789 ق. م ، كان جله من المصريين، والجيش الذى قاده "تحتمس الثالث" لتأييد حدود مصر كان من المصريين، والجيش الذى قاده "رمسيس الثانى" وهزم به الحيثيين فى معركة " قادش" كان فقط من المصريين، وهى المعركة التى فتحت الطريق لتوقيع أول معاهدة سلام فى التاريخ المدون عام 1270 ق . م . بين المصريين والحيثيين .
وهذا ما يفسر لنا حكمة محمد على باشا بتأسيس أول مدرسة حربية تقوم بإعداد الجنود والضباط من أبناء مصر فى مدينة أسوان ، وبأيدى المصريين الصناع المهرة أقام البنية الأساسية للصناعات الحربية لتزويد الجيش باحتياجاته من البنادق والمدافع والبارود والسفن ، وخاض بهذا الجيش العديد من الحملات العسكرية الناجحة إلى أن تحالفت القوى الدولية آنذاك لتدمير الأسطول المصرى فى موقعة "نفارين"، ومع ذلك فقد اكتسب الجيش على مدار تاريخه قدرات هائلة على الصمود والنهوض مجدداً بعد كل كبوة، ولا أدل على ذلك مما حدث فى 5 يونيو 1967م، وهزيمته فى معركة لم تتح له فيها فرصة القتال الحقيقى ، ومكن الميراث التاريخى جيش مصر من الصمود وظهر معدن المقاتل المصرى بعد أيام قليلة من النكسة، وبالتحديد فى أول يوليو 1967م ، كما ظهر فى ملحمة "رأس العش" وتدمير المدمرة الإسرائيلية "إيلات" قبالة سواحل بور سعيد، باستخدام لنشات الصواريخ لأول مرة فى التاريخ العسكرى البحرى، وملحمة بناء حائط الصواريخ بأيدى المصريين مدنيين وعسكريين عمال ومهندسين وفنيين وفلاحين، ومهدت حرب الاستنزاف الطريق لجيش مصر لخوض أعظم معاركه فى التاريخ الحديث معركة العبور العظيم يوم السادس من أكتوبر عام 1973، والتغلب على أكبر مانع مائى فى تاريخ الحروب وإهالة الساتر الترابى وتحطيم خط بارليف الحصين الذى وصف بأنه أقوى من خط "ماجينو".
ولقد أثبتت حرب أكتوبر عظمة شعب مصر والتحامه التام مع قواته المسلحة فقدم أولاده فداءً لمصر، ولا أدل على ذلك من أنه لا تخلو قرية مصرية فى طول البلاد وعرضها من مدرسة تحمل اسم أحد الشهداء ، وبرهنت حرب أكتوبر على تحضر شعب مصر، إذ لم تسجل محاضر الشرطة جريمة واحدة طوال أيام الحرب التى جعلت الكل على قلب رجل واحد من أجل مصر، ومن هذا المنطلق يبدو طبيعيا جدا أن نرى كل تلك الإنجازات التى تقوم بها القوات المسلحة فى الاكتفاء الذاتى النسبى من احتياجتها المعيشية، إضافة إلى البطولات العسكرية الخلاقة والمبدعة فى القطاع الخدمي، والذى أصبح عنوانا بارزا للقدرة والكفاءة، رغم أنه لايحظى إلا بالقدر الشحيح من الترويج الإعلامى الذى لا يعبر بالقدر الكافى عن روعة الإنجاز من جانب القوات المسلحة المصرية فى وقت السلم تماما كما هو دورها المعروف فى وقت الحرب .
ولأنى لمست عن قرب بعضا من القلق الذى صاحب تصريحات " العسيري" من جانب ممن لا يعرفون ركائز وصدقية العقيدة العسكرية المصرية ، فقد آثرت سرد بعض الحقائق المشرفة عن الجيش ، وعن تلك الحروب التى خاضها المقاتل المصرى كأكبر برهان عملى على كفاءته وبطولاته الأسطورية فى الدفاع والزود بالنفس من أجل الوطن، انطلاقا من عقيدة إيمانية بقيمة هذا التراب المقدس، ومن ضمن تلك الحقائق المهمة التى ينبغى أن ترسخ فى ذاكرتنا الحية، وتذكرها المصادر التاريخية بفخر عن الجيش المصري، أنه أول وأقدم جيش نظامى فى العالم، تأسس قبل ٧ آلاف سنة كان فى مصر، بل إن البعض يقول إن تأسيس الجيش سبق نشوء الدولة المصرية الحديثة، فقد كانت مصر منذ أكثر من سبعة آلاف عام - بحسب تلك المصادر التاريخية - مقسمة إلى عدد من المقاطعات التى كانت تدخل مع بعضها فى حروب تارة ، أو فى وحدة تارة أخرى ، حتى فرضت المصلحة المشتركة للشعب المصرى - وقتها - أن تتحد تلك المقاطعات مع بعضها فى وحدة واحدة أكبر تشمل ممالك تغطى كل من الدلتا والصعيد ، ولما كان مصدر الحياة الوحيد هو نهر النيل والرزق الذى يجنيه الناس من تنظيم مياه النيل رزقا مشتركا ، كان ضروريا أن تتعاون كل أجزاء الوطن ، إلى أن انتظمت الحياة بجهود أبناء مصر فى مجال الزراعة وضبط مياه النيل وإتباع التقويم الشمسى الذى قسم السنة إلى 12 شهرا ، والشهر إلى 30 يوما .
ومن مآثر الجيش التى لا تنسى ، إنه فى حوالى 3200 ق .م ظهرت أسرة قوية فى مدينة "طيبة" استطاع أحد ملوكها" مينا نارمر نعرمر" توحيد مصر نهائيا ، مؤسسا بذلك الأسرة الفرعونية الأولى ، وبدأت بذلك ملامح النظام الإدارى تتضح، وأصبح هناك على رأس الدولة "ملك" تتبعه مجموعة من الأجهزة والإدارات ، وأدرك ملوك مصر من الوهلة الأولى أن من بين أسباب تحقيق الاستقرار الداخلى ضرورة تأمين حدود البلاد، بعدما بدأ يظهر فى الأفق بعض المتسللين على حدود مصر الشرقية والغربية والجنوبية، ومن هنا بدأت فكرة تكوين قوات حراسة وحاميات صغيرة لتأمين هذه الحدود اعتمادا على الجيش باعتباره العمود الفقرى فى الحياة المصرية.
ربما لم تعرف مصر فى البدايات الأولى من تاريخها تكوين جيش نظامى موحد للدولة بأكملها، فقد كان مواطنها يجنح للسلم ولا يميل للحرب ، فهو صاحب حضارة زراعية مستقرة ، وأرض غنية بكثير من الموارد الطبيعية، فضلا عن وجود نهر النيل الذى منحه قدرا كبيرا من الأمن والاستقرار ، ولأنه كان قويا فى سلمه وحربه، بل كان متحضرا فى معاملة أسراه ، وظل لفترة طويلة يبنى بلده من الداخل، وما كان يلجأ للحرب إلا دفاعا عن أرضه وأمنه واستقراره ، فقد اكتفى حكام الأقاليم بتكوين فرق خاصة لهم مدربة ومجهزة بالأسلحة والعتاد ، ليدافعوا عن أقاليمهم، وخصوصا تلك الواقعة على الحدود، غير أن بواكير الجيش المصرى النظامى بدأت تظهر فى أثناء حكم الأسرة الخامسة ، ثم أصبح الأمر أكثر وضوحا منذ الأسرة السادسة، وخصوصا فى عهد أشهر ملوكها" بيبى الأول"، ففى عهده قام البدو القاطنون على الحدود الشرقية بإحدى غاراتهم على الدلتا، ولما كانو أكثر من أن تستطيع فرق المقاطعات الواقعة على الحدود مواجهتهم فقد قرر الملك "بيبى الأول "استدعاء جميع الفرق العسكرية لتعمل تحت إمرة أحد كبار رجال عهده هو "وني"، وقد روى لنا هذا القائد أخبار هذه الحملة من خلال سيرته الذاتية على جدران مقبرته بمعبد "أبيدوس" مركز البلينا بمحافظة سوهاج .
وهكذا خاض الجيش المصرى أول معركة حقيقية فى هذه الفترة المبكرة من تاريخ مصر القديم ــ وكتب له فيها النصر على سكان فلسطين، وبدا واضحا بعد ذلك أن مصر أصبحت فى حاجة إلى جيش قوى يحمى أرضها ويحقق لها الأمان والاستقرار ، وليس غازيا أو معتديا يوما على غيره !
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة