عبارتان قرأتهما على «فيس بوك»، فشعرت بوخز الشوك ينحرُ فى قلبى بغير رحمة. واحدة اِستُلهِمَت من حديث شريف، والأخرى من إحدى قصائد أمير الشعراء أحمد شوقى. كانت كلُّ عبارة من العبارتين بمثابة مرآة أمسكها كاتبُها، أمام وجهى ووجوه المسلمين، حتى نرى على صفحتها قبحَنا ودمامة سلوكنا، فنموتُ كمدًا.
العبارتان كتبهما أقباطٌ مسيحيون على صفحاتهم فى «فيس بوك». واحدة تقول: «لم يستوصوا بنا خيرًا يا رسولَ الله». وهى بطبيعة الحال ردًّا على حديث الرسول عليه الصلاة والسلام: «استوصوا بأهلِ مصرَ خيرًا فإنّ لهم نسبًا وصهرًا»، وهو الحديث الذى ورد على عدّة رواياتً قد تختلف فى المفردات، لكنها تتفق فى المعنى. وأما النَسَبُ المقصود فهو السيدة هاجَر، زوجة إبراهيم الخليل عليه السلام، وأما الصِّهر فالمقصود به السيدة ماريا القبطية، زوجة النبى المصرية، ووالدة ابنه إبراهيم.
وأما العبارة الموجعة الثانية التى كتبها أقباطٌ مسيحيون على صفحاتهم فكانت شِطرًا من قصيدة «نهج البردة» التى كتبها عظيم الشعر أحمد شوقى، فى مدح رسول الله عليه الصلاة والسلام. كتب أحد المسيحيين على صفحته شطر البيت القائل: «أحلَّ سفكَ دمى فى الأشهرِ الحُرُم». وهى عَجُز بيتٍ شعرى يقول صدرُه: «ريمٌ على القاع بين البانِ والعلم». وواضح أن تلك الوخزة الجارحة، المقصود بها هو أن تفجير الكنيستين فى طنطا والإسكندرية كانا فى شهر رجب، وهو أحد الشهور الحُرُم، التى نهى القرآنُ الكريم عن القتال فيها. لكن التكفيرىَّ الذى زرع القنبلة فى صحن الكنيسة، ورفيقه الذى ائتزر بالحزام الناسف، ليقتلا معًا كل تلك الأرواح البريئة من مسيحيين مسالمين كانوا فى دور عبادتهم يصلّون لربهم، كلا الإرهابيين لم يطيعا القرآنَ وأوامر الرسول، ولم ينتهوا عمّا نهى. فقتلوا نفوسًا بريئة لم تقتل ولم تُفسد فى الأرض، عاصين أمر الله تعالى: “مَن قتلَ نفسًا بغير نفسٍ أو فسادٍ فى الأرض، فكأنما قتل الناسَ جميعًا»، ومتى؟ فى أحد الشهور المحرم القتال فيها، كما شرّع الرسول، ومن قبله كانت تلك عادة العرب فى جزيرة العرب، ومن قبلهما كان ذلك نهج أبى الأنبياء إبراهيم الخليل عليه السلام.
جاءت العبارتان الصادمتان: «لم يستوصوا بنا خيرًا يا رسول الله»، «أحلّ سفك دمى فى الأشهر الحرم»، لتصفعا وجهى صفعةً دامية، أنا التى اعتدتُ أن أقرأ هذا الحديث الشريف بفرح، لأنه يؤكد لى أن رفضى لظلم أشقائى المسيحيين فى بلادهم هو انتصارٌ لدينى وتنفيذ لأحد أوامر الرسول. وكذلك اعتدتُ أن تستقبل عيناى قصائدَ أحمد شوقى بشلال من المتعة والبهجة، فأتيه خُيلاء أن هذا الشاعر الاستثنائى هو ابن بلادى الشريفة مصر. فماذا جرى لأقرأ حديثًا شريفًا أحبه، وشطرًا من قصيدة أحبها، بكل هذا الوجع والوجل والرعب والشعور بالخزى ووخز القلب؟ ما معنى وخز الشوك فى قلبى، ومرارة الغصّة فى حلقى؟! الإجابة هى أن العبارتين الموجعتين كانتا رسالة قاتلة تشهد بعوارنا كمسلمين.
فى خيالى: أكادُ أسمعُ أحدَهم، وقد أشهر إصبعَه فى وجهى، ووجه كل مسلم فى مصر، قائلا: «أنتم دمويون غِلاظٌ. تقتلوننا دون جريرة بينما لم تجدوا مّنا إلا الحب والرأفة. لم تتعلموا الرحمةَ من سورة الرحمن، ولا تعلمتم المحبةَ منّا بعد طول عشرتكم معنا. أحببناكم كما أحببنا بعضُنا البعضَ، لأن لنا جدًّا واحدًا وجدّة واحدة وأرضًا واحدة لا نعرف غيرَها هى أرض طِيبة مصر. سامحناكم كثيرًا على ما ترتكبون فى حقّنا من سخافات، وتقتيل وتفجير وإقصاء عن المناصب العليا فى بلادنا، فاشتريناكم ولم نعبأ بعَرَض الدنيا. غضضنا الطرفَ عن ميزان المواطنة المائل غير العادل بيننا وبينكم فى أرضنا التى عرفناها قبلكم بستة قرون. وأبدًا.. أبدًا لم نردّ إساءاتكم بإساءة، ولا بادلنا طائفيتكم بمثلها. بل باركنا من يلعنوننا منكم، وصلّينا من أجل من يبغضوننا منكم، ودعونا اللهَ من أجل الخُطاة منكم. لأننا لا نعرف سوى الحب، كما علّمتنا أمهاتُنا الراهباتُ فى كنائسنا، وكما علّمنا سيدُنا المسيحُ رسولُ السلام الذى جال بالخير ولم يبغض أحدًا ودعا الَله أن يغفر لمن آذوه، لأنهم لا يعرفون ماذا يفعلون. علّمناكم القيم الرفيعة فى مدارسنا وأنتم صغار، ولم نفرّق بينكم وبين أطفالنا لكى تشبّوا أسوياء الروح، وما فعلتم مثلنا فى مدارسكم. طببّت أوجاعَكم راهباتُنا وأنتم مرضى فى مشافينا، فرأيتم بعيونكم كيف يكون البشرُ ملائكةً فوق الأرض. سامحونا إن قلنا لكم اليوم: أنتم كاذبون، ومنافقون! تدّعون اعتناقكم للإسلام، بينما لم نسلم من ألسنكم ولا من أياديكم. تزعمون أنكم مسلمون، ثم تقتلون نفسًا بغير نفس ولا فسادٍ فى الأرض، فكأنما تقتلون الناسَ جميعًا. تزعمون طاعة رسولكم، بينما خالفتم وصيتَه لكم فينا بالخير. تزعمون أنكم حافظون قرآنكم، بينما تخالفون آياته وتقتلون المُسالمين العُزّل فى نهارات الأشهر التى حرّم اللهُ فيها إراقةَ الدم. أيها المسلمون الأعزاء، أشقاءنا بالسلف، شركاءنا فى الوطن: أنتم لا تتبعون أوامرَ إسلامكم، ولا تطيعون آياتِ قرآنكم، وتُحلّون ما حرّم اللهُ، ولا تهابون أن تفعلوا ما حرّم!».