تكمن جماليات رواية "محاكمة تنكرية" للكاتب المصرى حسن هند، فى كشف آليات عمل ثلاثة عوالم معلنة لكنها تعمل وفق قانون سرى خاص بها، العالم الأول هو مجتمع الشركات عابرة القارات، تلك التى رغم وجود القانون الدولى الحاكم لها، إلا أن رأس المال الذى يدور كماكينة عملاقة تحيل كل أطراف معادلته إلى تروس صغيرة فيها، كان له قانونه الخاص خارج منظومة العمل المعلن، فمن يفكر فى توقيف الآلهة الراسمالية أو فضح آليات عملها لا يحاكم وفقا للقانون المعلن، ولكن وفقا لحكم كهنة وشيوخ هذا النظام، ومن ثم فحين كتب الدكتور عبد المنعم فى جريدة الأهرام مفتضحا عقود التنقيب عن المنجنيز فى خليج السويس من نهب لمقدرات البلاد وثرواتها دون مقابل، كان مصيره هو الوقف عن عمله كأستاذ جامعي، وإحالته إلى تحقيق لا تنتهى ولا باللجوء إلى محكمة العدل الدولية، إذ كلما تصور أنه أوشك على أقتراب غلق ملف هذا التحقيق ليبدأ حياته الطبيعية من جديد، وجد نفسه يعود إلى نقطة الصفر مرة أخرى، وكأنه سيزيف جديد على نحو مصرى وليس إغريقياً فى ملحمة تراجيدة.
العالم الثانى الذى تعرض له هند فى محاكمته التنكرية كان مجتمع اليسار الذى رفع راية الاستسلام أمام جحافل الطغيان الرأسمالى مع الانفتاح الذى اجتاح مصر فى منتصف السبعينات، وسرعان ما أعلن انبطاحه التام عقب سقوط الاتحاد السوفيتى وتحول العالم إلى النظام العالمى الجديد، حيث القطب الواحد المتمثل فى الشكل الرأسمالى الغربي، وحيث التوحش فى نهب ثروات بلدان العالم الثالث عبر الشركات عابرة القارات، حيث مثلت هذه الشركات قمة النظام العالمى الجديد، بينما مثلت حكومات الوطنية فى دول العالم الثالث دور الشرطى الأقليمى الموكول به حراسة مصالح تلك الشركات، فدخلت البلاد فى دوامة النهب الجديد بيد ابنائها وسادتهم من الرأسماليين الكبار، ومن ثم فقد الاستيلاء على على كل الدراسات التى قام بها الروس لتحديد أماكن تواجد الثروات المعدنية، لتتقدم شركات النظام العالمى الجديد بطلبها للتنقيب عن تلك الثروات فى تلك الأماكن بوصفها شركات مغامرة، فتحقق ربحية لا محدود دون أدنى ضريبة تذكرة تجاه البدان التى سلمتها كل ثرواتها بثمن بخس، كل ذلك يجرى فى ظل صمت أو تواطؤ أو موت ما يسمى بجماعات اليسار، تلك ارتضت بأدوار ثانوية تتحدث فيها عن الحرية والديمقراطية وتعليم المرأة وحقوق التعليم وغيره من خلال مجتمع مدنى ممول بفائض كسب الشركات متعددة الجنسيات، وحين يفكر رجل كالدكتور عبد المنعم فى الخروج عن السياق المرسوم له كمستشار لإحدى هذه الشركات العملاقة، فاضحاً ما تنطوى عليه أعمالها من نهب منظم وواضح لثروات البلاد بلا مقابل، فإن شيوخ وكهنة النظام الرأسمالى وآلته الجهنمية الجبارة يحكمون عليه بالدخول فى منطقة الأعراف، حيث لا جنة ولا نار، ولا ماض ولا مستقبل، حيث لا شيء سوى سيزيفية العذاب والانتظار.
الحلقة الثالثة فى عوالم محاكمة حسن هند التنكرية هى تجارة الرقيق المقنعة بأوهام رأسمالية، تلك التى تبدأ من تسويق فتيات الاعلانات وصولاً إلى الخدمة فى البيوت، مرورا بخروج المرأة إلى العمل وسط شروط غير قانونية ولا إنسانية، هذه الشروط التى تحيلها من سيدة تسعى لحياة كريمة إلى جزء من عملية تجارة رقيق رخيص كل يوم فى كل مصنع وشركة، ولا واحدة تستطيع أن تنجو من اعتصار الماكينة الجهنمية لعرقةا وجسدها وفكرها، ليتحولن جميعا فى خضم تلك المعصرة المهولة قطيع من الرقيق الأبيض، ولا يختلف الرجال كثيرا عن النساء فى هذا المنحى، سوى أن البعض يتصور أنه الفاعل أو المنتصر، لكن المشهد الكلى فى الرواية يؤكد أن الجميع خاسر، وأن الجميع فقد كلمة شرفه حتى مع نفسه.
يسخر الكاتب من تحولات اليسار المصرى المتمثل فى الدكتور عبد المنعم، ومن جشع الرأسمالية الوطنية التى ارتبطت بذيل الراسمالية العالمية، عبر اندماجها فى الشركات عابرة القارات، متمثلاً فى رشاد الذى تحول من وريث لرجل أعمال وطنى إلى قفاز للشركات العالمية الكبري، تلك التى استولت على خريطة الثروات المعدنية التى أعدها المهندسون الروس، ومن ثم ادعت انها ستقوم بمسح جديد للأرض، فنالت المتر بسعر لا يذكر دون أن تتكلف شيئا فى البحث والتنقيب، مما جعل عبد المنعم يصرخ فى مقاله فاضحا الصفقة المشبوهة، إلا أن الصفقة لم تتوقف، فى حين أن حياته كلها هى التى توقفت ودخلت متاهة التعذيب فى محاكمة تنكرية لا تنتهي.
تتعدد العلاقات النسائية فى هذا النص إلى درجة توحى بالمجانية، فنجد نساء مثل سوزان محمد زوجة د. عبد المنعم التى كانت تشك أنه يقوم بتصويرها عارية، والمثقفة الفلسطينية مى جبريل، وأمل البدرى التى أحبت والدها وتاهت فى غمار مغامرات لا حصر لها حين فقدته، وولاء محمد التى تزوجت مرتين وفى النهاية وجدت نفسها على الفيس بوك غاوية ومغوية، وجميعهن وقعن فى حبائل رشاد الثرى الناعم المثقف، رشاد الى باع نفسه للشيطان، وتخلص من صديقه عبد المنعم عبر إعطاء ملفه لمن لا يرحم، فوضعه أسفل سريره لا ليكون أول شيء يطأه بقدمه كل صباح .
هكذا تفتضح محاكمة تنكرية ما يجرى فى مجتمعنا منذ عصر الانفتاح وحتى الآن، موضحاً كيف انهارت منظومة القيم والعلاقات الانسانية فى هذا الوطن، وكيف صار المواطن يدور فى فلك محاكمة عبثية أبدية لا يعرف متى تنتهى ولا أين تذهب به ولا كيف يغلق ملفها، حتى حينما يلجأ إلى محكمة العد الدولية كما فعل د. عبد المنعم فإنها تحيله إلى بلاده من جديد، إذ لابد أن يغلق الملف بها قبل أن تتم مناقشته فى الخارج أمام كهنة ومشايخ الرأسمالية الكبار.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة