كان من الضرورى أن تتقدم أمريكا، هكذا انتهينا فى مقالنا السابق، واليوم يواصل المؤرخ العالمى «آدم توز» رؤيته الحقيقية للتقدم الأمريكى، حيث يرى أن ثيودور روزفلت، المعارض الجمهورى، كان يشكو من تقاعس إدارة ويلسون وتفوهها بالتفاهات والتربح من التجارة الأوروبية بينما تسيل دماء الأوروبيين دفاعًا عن المُثُل التى يؤمنون بها بكل كيانهم، أما ويلسون فكانت تحركه رؤية مختلفة، فبدلاً من انضمام الولايات المتحدة لصراع القوى الإمبريالية المتنافسة، يمكنها استغلال قوتها الناشئة لإخضاع تلك القوى لسيطرتها، فكان أول رجل دولة أمريكى يدرك أن الولايات المتحدة قد أصبحت قوةً تختلف عما سواها وتمارس سلطة على المسائل المالية والأمنية للدول الكبرى الأخرى، كان ويلسون يأمل فى توجيه هذه القوة الناشئة نحو فرض سلام دائم، إلا أن أخطاءه وأخطاء خلفائه تسببت فى فشل هذا المشروع وفى بعض الأحداث الكارثية التى أدت إلى الكساد الكبير وازدهار الفاشية وحرب عالمية ثانية أكثر سوءا من سابقتها.
ظهرت بعض المحاولات لرد الاعتبار لزعماء تلك الفترة بصورة دورية، كان آخرها كتاب The Forgotten Depression, 1921:Tha Crash That Cured Itself لجيمس جرانت، وهو مؤرخ وصحفى اقتصادى مؤثر، يشير جرانت إلى أن هذا الكساد كان الأزمة الأكثر حدة وإيلاما فى التاريخ الأمريكى، فانخفض إجمالى الإنتاج الصناعى بنسبة %30، وارتفعت نسبة البطالة لتصل إلى ما يقرب من %12، وهبطت الأسعار هبوطا حادا على نحو غير مسبوق، بعد ثمانية عشر شهرا من الظروف العصيبة للغاية، بدأ الاقتصاد فى التعافى، وبحلول عام 1923 كانت الولايات المتحدة قد عادت إلى التشغيل الكامل، يقدم جرانت هذه القصة باعتبارها انتصارا لمبدأ «دعه يعمل.. دعه يمر»، فقد توقف التضخم الناتج عن الحرب، وحل الاستثمار والادخار محل الاقتراض والإنفاق، ثم حدث التعافى الاقتصادى بصورة طبيعية، دون الحاجة لتدخل الحكومة.
يذكر جرانت فى الكتاب أن ‹‹الأسعار تتسق مع الجهد البشرى فى نظام اقتصاد السوق، فهى توجه الاستثمار والادخار والعمل، تشجع الأسعار المرتفعة على الإنتاج وتُثنى عن الاستهلاك، والأسعار المنخفضة تفعل العكس تماما، اتسم كساد عامى 1920-1921 بالأسعار المنخفضة، وهو ما نطلق عليه الركود الاقتصادى، ولكن كما هبطت الأسعار هبطت الأجور، ولم يتوقفا عن الهبوط إلا عندما أصبحا منخفضين للدرجة التى تجذب المستهلكين للتسوق والمستثمرين لإيداع المال وأصحاب العمل للتوظيف، فبسبب هبوط الأسعار والأجور، استطاع الاقتصاد الأمريكى النهوض مرة أخرى››.
بعد الحرب العالمية تعافت أوروبا بنسبة كبيرة بسبب المساعدة الأمريكية، فالدولة التى عانت أقل من غيرها من الحرب كانت أكثر الدول مساهمة فى إعادة الإعمار، ولكن الوضع كان مختلفا بعد الحرب العالمية الأولى. عانت فرنسا على سبيل المثال اقتصاديا أكثر من بقية أطراف الحرب العالمية الأولى، باستثناء بلجيكا، فقد دمّرت الحرب والاحتلال الألمانى المنطقة الصناعية بالجزء الشمالى الشرقى فى عام 1914، مات ملايين الشباب أو أصيبوا بالعجز، وكانت الدولة فوق كل ذلك غارقة فى الديون، تدين للولايات المتحدة بمليارات ولبريطانيا بمليارات أكثر، كانت فرنسا من الدول الدائنة كذلك خلال النزاع، ولكن كانت معظم قروضها تذهب لروسيا التى تنصلت من كل ديونها الخارجية بعد ثورة 1917، كان الحل أمام فرنسا هو الحصول على تعويضات من ألمانيا.
كانت بريطانيا ترغب فى تخفيف مطالبها من فرنسا، ولكنها كانت مدينة للولايات المتحدة بأكثر مما تدين به فرنسا، ولم تكُن لتستطيع سد ديونها لأمريكا إلا بجمع أموالها من فرنسا، بالإضافة إلى إيطاليا وكل الدول المحاربة الأخرى، أما الأمريكيون فكانوا مشغولين بقضية تعافى ألمانيا، فكيف يمكن لألمانيا تحقيق الاستقرار السياسى إذا اضطرت لدفع الكثير من المال لفرنسا وبلجيكا؟ ضغط الأمريكيون على فرنسا لتخفيف ضغطها على ألمانيا، ولكن أصروا على استرداد أموالهم من كل من فرنسا وبريطانيا.
أما ألمانيا فلم تكن تستطيع سد الديون إلا بالتصدير، خاصة لأكبر الأسواق الاستهلاكية وأغناها، الولايات المتحدة، ولكن كساد 1920 قضى على أحلام التصدير، فالأزمة الاقتصادية خفضت من الطلب الاستهلاكى الأمريكى على الفور.
عندما كانت أوروبا فى أشد الحاجة إليه، فكان على الملايين من الأمريكيين ادخار الأموال التى كانوا سينفقونها على المنتجات المستوردة، ولكنهم أنفقوها بدلًا من ذلك على الطعام والإيجار خلال الأوقات العصيبة فى عامى 1920-1921، ولكن أثر الكساد الخطير على التعافى فى أعقاب الحرب استمر بعد عام 1920 لفترة طويلة، وهو ما ظهر فى كل أنحاء أمريكا، ورغم ذلك فإن واشنطن نجحت فى تحويل الأزمات إلى دروس لها للتخطيط للمستقبل، وغدًا إن شاء الله نواصل طرح الأسباب والرؤية الحقيقيه للتقدم الأمريكى.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة