لو أردنا قياس حجم الاقتصاد تبعًا لحجم الناتج القومى، فإن الناتج القومى الأمريكى «17.416» تريليون دولار، يساوى تقريبًا ضعف الناتج المحلى الصينى «9.469» تريليون، هذا التفوق يتوقع صندوق النقد الدولى فى تقريره عن آفاق الاقتصاد العالمى، العام الماضى، أن يستمر لنهاية هذا العقد على الأقل، مع تصور ببلوغ الناتج المحلى الصينى فى عام 2019 مبلغ «15.518» تريليون دولار مقابل «22.174» تريليون للولايات المتحدة.
يأتى هذا الرقم من بلد يمثل عدد سكانها أقل من ربع عدد سكان الصين، البالغ عددهم أكثر من 1.33 مليار إنسان، مع متوسط دخل سنوى 4000 دولار للصينى سنويًا مقابل 53000 دولار سنويًا للأمريكى، وحتى مع تعديل القوة الشرائية ومراعاة التضخم الاقتصادى يظل المتوسط السنوى للأمريكى أعلى من نظيره الصينى بفارق كبير.
الاقتصاد الصينى أيضًا يعانى من الدين، دين بلغ %251 من الناتج المحلى الصينى «رقم يقارب الـ26 تريليون دولار»، بينما إن أردنا أن نلقى نظرة أكثر دقة على قوة الولايات المتحدة اقتصاديًا فعلينا تقدير حجم الثروة المحلية أو الوطنية لكل دولة، الولايات المتحدة تتربع على العرش بثروة مقدارها 72 تريليون دولار مقابل 22 تريليون للصين، خمسون تريليون دولار لا تبدو فرقًا سهلًا أو بسيطًا.
أهم شىء والفارق الأساسى بين الولايات المتحدة وأى دولة أخرى اقتصاديًا أن اقتصادها قائم على ريادة الأعمال والابتكارية وليس اقتصادًا مستنسخًا بعكس الصين، والابتكارية فى أغلب المجالات الاقتصادية تقريبًا مقابل ابتكارية فى مجالات أقل عددًا بالنسبة للاتحاد الأوروبى واليابان على وجه التحديد، فضلًا عن أنها على قمة العالم فى الأبحاث والتطوير «Research & Development» مما يكسبها هذه الهيمنة التجارية المسبقة على الستة مجالات الاقتصادية الرئيسية «التكنولوجيا/ السلاح/ الدواء/ الغذاء/ النقل/ الطاقة».
شىء آخر مهم وهو قوة الولايات المتحدة الاقتصادية الناعمة المتمثلة فى علاماتها التجارية الرائدة التى تغطى كل شىء تقريبًا فى العالم، أبل، مايكروسوفت، فيسبوك، جنرال إلكتريك، كوكاكولا، ماكدونالدز إنتل، جولدمان ساكس، تويتر، جوجل، نيتفليكس، فورد، جنرال موتورز، بوينج، لوكهيد مارتن ومئات العلامات الأخرى تشترك كلها فى كونها بعشرات المليارات من الدولارات.
بالطبع، وقبل كل ذلك فإن وجود الدولار كعملة العالم التجارية الرسمية القياسية وعملة الاحتياطى العالمى لعدد لا يستهان به من البلدان يعطى الولايات المتحدة كثيرًا من الزخم والنفوذ كمرجعية اقتصادية أساسية ووحيدة، على الرغم من محاولات الاتحاد الأوروبى لاختراق ذلك بعملته الموحدة اليورو، لكن تلك المحاولات حتى الآن ما زالت بعيدة بشكل كبير عن النجاح.
على الرغم من شيوع وجهة النظر القائلة بأن نفوذ الولايات المتحدة الكبير يرجع فى معظمه لقوتها العسكرية كأقوى تسليح منظم فى العالم لكنها ليست صحيحة بالمرة، فمنطقيًا لن تغزو الولايات المتحدة كل دولة لا تعجبها أو تتمرد على سياستها، على الرغم من أنها فعلتها فى العراق وقبلها فى أفغانستان وفيتنام وغيرهما بشكل كلى أو محدود وتستطيع أن تفعلها مرة أخرى، لكنها تبقى حالات محدودة واستثنائية مناطها ضعف الجبهات المواجهة مع التأييد الدولى الواسع أو الصمت والتماهى والاعتراض اللفظى على أحسن الأحوال.
هذا التأييد أو الصمت هو النفوذ الحقيقى! نفوذ الولايات المتحدة الأمريكية هو شبكة معقدة جدًا من الخيوط تتبع فى تكوينها مبادئ «القوة الناعمة/ الاقتصادى/ المؤسساتية»، فمثلًا تمتلك إعلامًا هو الوحيد من نوعه فى الأرض الذى يجمع أغلب الناس لمشاهدته سواء كان إعلامًا مرئيًا «تلفاز/ سينما/ إنترنت» أو إعلامًا مقروءًا «صحف/ مجلات/ صناعة نشر»، مثلًا إعلام إخبارى ممثل فى الوكالة الأشهر «CNN» أو فوكس نيوز أو ABC، وإعلام مقروء كالواشنطن بوست والنيويورك تايمز الصحيفتين الأشهر فى العالم، هوليوود، شبكات المسلسلات كـ NetFlix وHBO وغيرها، والكل مشترك فى العالمية ومشاهدوهم أو قارئوهم بالملايين حول العالم، وهو الإعلام الوحيد المتوغل بهذا الشكل.
هذا التوغل يتضح أكثر فى صناعة النشر «الكتب فقط»، على الرغم مما تواجهه من انحسار فيها، صناعة لا تجدها ذات حيثية اقتصادية فى أى دولة فى العالم إلا فى الولايات المتحدة، إحصائيات العام الماضى توضح أن صناعة النشر فى أمريكا بلغت 29 مليار دولار، قرابة الثلاثين مليارًا فى عام واحد، وهو رقم يمثل ميزانية بعض الدول الصغيرة.
هذا فرع من فروع القوة الناعمة يخدم الفرع الأهم والرئيسى وهو «المؤسسات الاقتصادية والسياسية» التى تتحكم فيها الولايات المتحدة، يحضرنا بالطبع البنك الدولى وصندوق النقد الدولى والاثنان يشكلان معالم السياسة الاقتصادية العالمية، والاثنان تتحكم فيهما الولايات المتحدة بشكل شبه كامل، وبنك التنمية الآسيوى الذى تديره اليابان بتفاهمات دقيقة مع الولايات المتحدة بالطبع، ولذلك تحاول الصين تغيير ذلك عن طريق تغيير البنية العالمية الاقتصادية وصياغة مؤسسات جديدة.
وغدًا نواصل البحث عن السؤال الصعب كيف تقدمت أمريكا وكيف نستفيد من التجربة الأمريكية؟