السائد خطأ عن الجهاز المركزى للتعبئة العامة والإحصاء، أنه جهاز للتعداد فقط، لكنه فى الحقيقة هو جهاز شامل يقوم بجمع ومعالجة وتحليل ونشر كل البيانات الإحصائية والتعداد السكانى، نحصل منه على المؤشرات التى تساعد الحكومة على وضع التصورات المستقبلية لخططها، فهو يصدر تقارير سنوية وأخرى شهرية فى غاية الأهمية، منها تقارير التضخم والفقر وغيرها من التقارير التى تضعنا أمام الصورة المجملة للدولة وتحركاتها، والظواهر الاقتصادية والاجتماعية التى تحتاج إلى التدقيق لوضع حلول لها حتى لا تتفاقهم، بمعنى أدق يمكن اعتباره جهاز الإنذار ليس فقط للحكومة، وإنما للمجتمع بشكل عام.
الإنذار المهم الذى أعلنه الجهاز متعلق بالمشكلة السكانية، التى مللنا الحديث عنها، لكن دون نتيجة على أرض الواقع، فالأرقام فى تزايد مستمر دون أن نعى خطورة ذلك، حتى حينما تحدث عنها الرئيس عبد الفتاح السيسى أكثر من مرة، لكن يبدو أن القضية فى حاجة لخطوات ملموسة تحد من خطورتها، ولكى نكون أكثر دقة نعود قليلاً إلى لغة الأرقام على لسان اللواء أبو بكر الجندى، رئيس الجهاز المركزى للتعبئة العامة والإحصاء الذى تحدث فى جلسة مع إعلاميين مثقفين الثلاثاء الماضى عن هذه المشكلة، واعتبرها من أخطر المشاكل التى تواجه الدولة حالياً، وربما تفوق فى خطورتها الإرهاب والتباطؤ الاقتصادى، لأن النمو السكانى الذى وصل إلى %2.3 يفوق النمو الاقتصادى، فى حين أن القاعدة العادلة تقول إن النمو الاقتصادى يجب أن يعادل ثلاثة أمثال النمو السكانى، لكن فى مصر لا يحدث ذلك، وإنما يحدث العكس، فالنمو السكانى يتزايد بينما النمو الاقتصادى يواجه عقبات نعلمها جميعاً، ووصل بنا الحال إلى أنه فى 15 مايو الجارى سيصل تعداد مصر إلى رقم 93 مليون نسمة، فى حين أن النمو الاقتصادى يخطو ببطء شديد.
القضية إذن كما قلت فى حاجة إلى حوافز بتدخل تشريعى، لأن الأمنيات والخطب الكثيرة لن تجدى نفعاً، والحل يكمن فى الإجراءات، ومنها على سبيل المثال أن تمنح الدولة حوافز للأسر التى تقتصر على إنجاب طفل أو اثنين على أقصى تقدير، والأسر التى يزيد أطفالها عن ذلك يتم حرمانها من هذه الحوافز للأطفال الأكثر من طفلين، وهذا نظام معمول به فى دول منها الصين التى تعتمد سياسة الطفل الواحد، وهى سياسة لتحديد للنسل تتلخص فى أنه لا يسمح بأكثر من طفل لكل زوج فى المناطق الحضرية، ثم عدلته مؤخراً فى 2015 بقرار يسمح لكل عائلة بإنجاب طفلين كحد أقصى، وفى حال إنجاب أكثر من طفلين فإن الحكومة ستضطر لحرمانه من كل حقوق المواطن، وتجرده من كل الامتيازات، فهو مثلاً لن يتمكن من الاستفادة من خدمات الدولة، كالدراسة والطب ولا يحق له الانتخاب.
أعتقد أننا فى حاجة لتطبيق سياسة الطفل الواحد أو الطفلين، حتى نحجم الزيادة السكانية قبل أن تستفحل وتصل إلى مرحلة لا تقبل أى حل.
وبالعودة إلى الجلسة التى حضرتها مع اللواء أبو بكر الجندى، فقد كانت مليئة بالأرقام والمعلومات المهمة، والدالة أيضاً، خاصة حينما تحدث عن موضوع الفقر، فالجهاز يستعد لإجراء مسح عن نسبة الفقر فى مصر، وهو المسح الذى يجريه الجهاز كل عامين، وكان من المفترض أن يبدأ العمل فيه فى يناير الماضى، لكن تم تأجيله ستة أشهر بسبب انشغال الجهاز بتعداد مصر، ووفقاً للجندى فإن مسح الفقر سيبدأ فى يونيو المقبل ويستمر لثلاثة أشهر، لكن المتاح الآن هى الأرقام المعلنة فى إحصاء 2015، حيث وصلت نسبة الفقر وقتها إلى %27.8، وكانت محافظات الصعيد هى الأعلى، خاصة أسيوط التى وصلت نسبة الفقر فيها إلى %66، علماً بأن الجهاز تعامل وقتها أن الفقير هو من لا يملك القدرة على الإنفاق للحصول على الاحتياجات الأساسية من طعام ومأوى وملبس، وكانت وفقاً لأسعار 2015، تقدر بـ482 جنيه للفرد الواحد، وهو رقم من المؤكد أنه سيتضاعف فى إحصاء 2017 بعد الزيادة التى طرأت على أسعار السلع والخدمات.
ما لفت انتباهى فى حديث اللواء أبو بكر الجندى قوله إن نسبة الفقر هى الأعلى فى الصعيد، لكن رغم ذلك كانت محافظات الصعيد هى الأكثر نشاطاً وتعاونا مع مندوبى الجهاز المركزى للتعبئة العامة والإحصاء فى تعداد مصر، فوفقاً للمتابعة الدورية أكتشف الجهاز أن مستوى الإنجاز متفاوت بين المناطق والمحافظات، وأقل مستوى فى الإنجاز كان فى القاهرة والإسكندرية والجيزة، بينما كان مستوى الإنجاز فى الصعيد هو الأعلى، رغم أن مستوى الفقر فى هذه المحافظات هو الأعلى أيضاً، بما يؤكد أن الفقر لم يحول دون تجاوب أهالى الصعيد مع النداءات التى أطلقتها الدولة للمصريين ليشاركوا فى التعداد.
إذن مستوى الفقر لم يقف عائقاً أمام إتمام عملية التعداد، كما أن الأرقام تكشف لنا عن حقيقة أخرى لا تقل خطورة عن ذلك، فأثناء مرور مندوبى الجهاز على الشقق والمنازل والمنشأت تلقوا طلباً من مليون و300 ألف أسرة بالتسجيل الإلكترونى، أى أن تقوم هذه الأسر بتسجيل بياناتها ذاتيا على موقع التعداد بعد إمدادهم بالرقم السرى الخاص بكل أسرة، لكن بعدما عاود موظفو الجهاز الأتصال بهذه الأسر للتأكيد عليها لم يتلقى الجهاز سوى تأكيد 440 ألف أسرة قالت إنها ستقوم بالتسجيل الإلكترونى، وبعد اتصالات ومتابعات لم يقم بالتسجيل الإلكترونى سوى 43 ألف أسرة فقط، وهو رقم هزيل إذا ما قارناه بعدد المليون و300 ألف أسرة أبدت فى السابق رغبتها فى التسجيل الإلكترونى، وهو أمر يؤشر إلى أن القضية لا تتعلق بمستوى الفقر أو الأمية، وإنما بمدى وجود الرغبة فى المشاركة من عدمها، وهى الأزمة التى نعانى منها فى مصر، فالقضية الأهم بالنسبة لنا هى وجود الرغبة فى المشاركة الإيجابية، وأيضاً التجاوب مع ما يطرح من مبادرات، مثل المبادرة الخاصة بتقليل الإنجاب.
إذن من المهم أن نطالع بدقة ما ينشر من أرقام وإحصائيات صادرة عن الجهاز المركزى للتعبئة العامة والإحصاء، لأنها كما قلت مهمة، وتؤشر لدلالات مهمة، يمكن الاعتماد عليها فى بناء تصور عن شكل الدولة، لكن المهم أن ننظر لها ونحللها بدقة.