قبل الخوض فى غمار أى نقاش من شأنه أن يشغل الرأى العام، لابد أن نسأل أنفسنا ماذا سيضيف هذا النقاش للصالح العام، وكيف سيستفيد به المجتمع.
مع الأسف يغيب هذا السؤال عن أغلب نقاشاتنا، ويغيب عن أغلب القائمين على أجهزة الإعلام على الرغم من أن الجزء الأكبر من دورهم فى الأساس ينصب على تنظيم أفكار الرأى العام، وتنمية مدارك المجتمع لرفع الوعى.
القاعدة البسيطة التى يدرسها الطلبة فى كليات الإعلام، والتى تقول بأن وسائل الإعلام مهما بلغت قدراتها لا تستطيع تشكيل وتوجيه الرأى العام بشكل كامل، لكنها تستطيع ترتيب أفكار النقاش العام، وتحديد أهمية الموضوعات التى تشغل المواطن، وهو دور لا يقل أهمية وخطورة عن استمالة المجتمعات لجانب معين، ولتوضيح الفارق علينا أن نسأل أى قضية أهم وأولى بأن تشغل الرأى العام بدلا من أن نسأل أى وجهة نظر نريد أن نقنع بها الرأى العام، فكل متلقى لديه قاعدته المعرفية وموقفه المسبق الذى سيحدد كيف يستقبل المعلومات التى تبثها وسائل الإعلام، لكن يمكن لوسائل الإعلام وضع قضية ما فى رأس أولويات الناس وحثهم على التفكير بها والانشغال بها لتنتج نقاش مجتمعى واسع، وبالتالى موقف عام حول هذه القضية بدلا من قضايا أخرى أقل أو أكثر أهمية.
هذا بالضبط ما تقوم به مواقع التواصل الاجتماعى الآن بعد أن تسرب هذا الدور من بين أيدى القائمين على الإعلام، وصارت مواقع التواصل الإجتماعى هى التى تحدد الموضوعات الرائجة والأعلى متابعة، وأيها يتم التعتيم عليه والتغاضى عنها مهما بلغت أهميتها، وبالتبعية استغل محبى الظهور هذه الفكرة وصار هناك مفتعلى الموضوعات الأعلى متابعة عن طريق افتعال الأزمات وتحولت هذه الصفات البغيضة إلى وظيفة تسويقية.
المشكلة الخطيرة فى هذا الترتيب الذى تسير الأمور وفقا له، أن ترتيب الموضوعات التى تشغل الرأى العام صارت لعبة فى أيدى مجموعة من المدعين، ومفتعلى الأزمات، ويسير من خلفهم أغلب القائمين على وسائل الإعلام سواء كانت فضائيات أو جرائد أو إذاعات، دون تفكير.
لقد تخلت هذه الوسائل الإعلامية عن دورها طواعية، ودون مقاومة لهذا الكم من الركاكة، وضعف المعلومات، بل ولا جدوى النقاشات التى تقودها جماعات الجهلاء على مواقع التواصل الاجتماعى المختلفة، دون أدنى ضابط أخلاقى أو معرفى.
تنتقل النقاشات كما هى إلى البرامج الفضائية، دون أن يسأل معدى هذه البرامج ماذا ستضيف هذه النقاشات للشأن العام، أى القضايا أولى بلفت نظر المجتمع وتوجيه تفكيرهم وطاقاتهم إليها، هل ستشكل هذه النقاشات فارق فى حياة المواطن وما القيمة المضافة إليه، وتحت هذه التصنيفات يمكن أن نضع عشرات النقاشات التى انجرف القائمون على الإعلام وراءها فى الشهور القليلة وانشغلوا بالجرى وراء شخصيات زائفة تفتعل مواقف وأزمات كل فترة لمجرد الظهور الإعلامى، ودون أن نفهم السبب الذى تورطت أغلب المواقع الإخبارية ومعدى البرامج والصحفيين فى البحث عن ردود أفعال مختلف الأطراف حول هذه الأزمات التى يعرفون جيدا أنها مفتعلة وهدفها الظهور الإعلامى فقط.
وصار من السهل أن تستيقظ فى الغد لتجد كل قنوات التليفزيون وأصدقاءك ومعارفك يناقشون تصريح أو رأى أو موضوع طرحه أحد نجوم مواقع التواصل الاجتماعى الذين أصبح لديهم آلاف المعجبين، أو بمعنى أدق "مريدين" ، هؤلاء الأشخاص فى الغالب يتسمون بالتفاهة والسطحية وعدم القدرة على تناول أى قضية حقيقية بعمق، نظرا لظروف عدة منها أن الهدف من النقاش لا يستهدف سوى جمع أكبر عدد من الإعجاب والمشاركات حتى إشعار آخر واصطياد قضية جديدة تحوز عدد أكبر من الإعجاب والمشاركات الوهمية ، ودون أدنى محاولة للبحث والتمحيص لتكوين رأى حول أيا من هذه القضايا.
ومن هذا المنطق فإن هؤلاء لا يجيدون سوى افتعال الجدل والأزمات ولا يصمد أيا منهم أمام أى نقاش حقيقى، لذلك يكون الحل السحرى هو البحث عن قضية جديدة ينشغل بها الرأى العام قبل أن تحسم القضية الأولى وهكذا .
والنتيجة أنه لم تعد وسائل الإعلام قادرة على العمل المتصل حول موضوع بعينه لتكوين معرفة عميقة حوله تمكن الرأى العام من اتخاذ موقفا منه، صارت أغلب نقاشات الرأى العام مبتسرة تتسم بالسطحية وعدم الدقة ناهيكم عن الاستناد إلى مصادر مشبوهة وغير دقيقة للمعلومات، إن إدراك صناعة الرأى العام تتطلب تحمل من القائمين على صناعة الإعلام إدارك اللحظة الفارقة فى عمر الوطن، والعمل على رفع وعى المجتمع بدلا من المتاجرة بأحلام البسطاء.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة