«أسس القوة.. لماذا لن تتراجع الهيمنة الأمريكية فى العالم»؟.. تحت هذا العنوان وضع روبرت كاجان، المؤرخ وزميل مركز بروكينجز، دراسة خطيرة أجاب فيها عن هذا السؤال الصعب.
والغريب أنه فى الوقت الذى تواصل فيه أمريكا البحث عن وسائل لاستمرار تفوقها، مازلنا نحن فى منطقه الشرق الأوسط كلها دون استثناء نبحث عن وسائل لزيادة تخلفنا، وهذا هو الفرق بيننا وبين الأمريكان، فالتدهور الأخلاقى والاقتصادى والسياسى والعلمى الذى أصيبت به مصر ليس فقط منذ بناير2011، بل وقبل ذلك بسنوات، سببه الأساسى هو المواطن. وما تنعم به أمريكا من تقدم يعود أيضًا إلى المواطن الذى احترم القانون، فغزا العالم، عكس المواطن المصرى الذى لا يحترم القانون ولا الدستور ولا الآخر، والنتيجة مزيد من التخلف، كل هذا جعلنى أبحث عن السؤال الصعب: لماذا تقدمت أمريكا وتخلفنا نحن؟
ومن خلال العديد من الدراسات والكتب والأبحاث التى وضعها باحثون عرب وغربيون وأمريكان، أبحث بين السطور عن إجابة لهذا السؤال.
وفى الدراسة المؤرخ روبرت كاجان، وترجمها وقدمها الباحث بمكتبة الإسكندرية، محمد مسعد العربى، ونشرت فى مجلة السياسة الدولية، وضع روبرت كاجان عدة عوامل حقيقية، كانت وراء استمرار التقدم الأمريكى وتفوقها على العالم كله، فيقول «كاجان»: «ينشغل مفكرو الولايات المتحدة منذ فترة ليست بالقصيرة بمستقبل الولايات المتحدة الأمريكية فى ظل التغيرات الحادثة فى شكل النظام الدولى، الذى لم تتشكل ملامحه بعد، وتحولات ميزان القوى من الغرب إلى الشرق، القارة الآسيوية». ويحتدم الجدل بين تيارين، يرى أولهما أن الولايات المتحدة فى طور التراجع الذى يجعلها تلحق بغيرها من القوى الكبرى، والحضارات العظمى التى سبق أن فرضت هيمنتها على العالم وشكلته، ثم تراجعت واندثرت، خاصة مع تآكل الديمقراطية الأمريكية، وإنهاك اقتصادها بالحروب غير المبررة، وتعرضها لأزمات عاصفة فى العقد الأخير، وهو ما أدى لعدم قدرة واشنطن على التحكم فى مسارات الأمور، ومجريات الأحداث فى العالم، مع تساقط حلفائها فى مختلف مناطق العالم، وبروز قوى عظمى أخرى تتنافس على دورها. فى حين يرى أنصار التيار الثانى أن القوة الأمريكية لا تزال فى ذروتها، وأنها أبعد ما تكون عن التراجع».
وقد انعكس هذا الجدل على مؤسسات الحكم الأمريكية، الأمر الذى دفع الرئيس الأمريكى السابق، باراك أوباما، إلى التطرق إليه فى معظم- إن لم يكن كل- خطاباته إلى العالم أو الشعب الأمريكى، أثناء وجوده فى البيت الأبيض، وقبل نجاح دونالد ترامب برئاسه الولايات المتحدة الأمريكية، حيث أشار إلى أن هؤلاء الذين يتحدثون عن تراجع الولايات المتحدة أو ضعف نفوذها فى العالم لا يعون ما يتحدثون به.
وبعيدًا عن حديث الرئيس الأمريكى السابق «أوباما»، فإننا نعود إلى دراسه الباحث السياسى روبرت كاجان، الذى يطرح تساؤلين رئيسيين، مفادهما: «هل تواجه أمريكا تراجعًا فى مكانتها كقوة عظمى؟»، و«هل يواجه الأمريكيون خطر أن تمارس دولتهم الانتحار الاستباقى الذى تمارسه القوى العظمى قبل سقوطها؟». والمقال إجابة بالنفى على هذين التساؤلين، ويسوق «كاجان» مقولة رئيسية يعتمد عليها تحليله، هى أن النظام العالمى الحالى، الذى يتسم بوجود عدد غير مسبوق من الديمقراطيات، والازدهار غير المعهود رغم أزماته، والسلام بين القوى الكبرى، إنما يعكس المبادئ والتفضيلات الأمريكية. وقد بنى هذا النظام على القوة الأمريكية، ويعتمد فى استمرارها على حمايتها، وبالتالى إذا تدهورت القوة الأمريكية، فإن النظام العالمى سيتدهور، وسيحل محله نظام يمثل انعكاسًا لقوى أخرى، ربما تؤدى به إلى الانهيار، كما انهار النظام العالمى الأوروبى فى النصف الأول من القرن العشرين، ولا يمكن كذلك تصور بقاء الأسس الليبرالية التى يقوم عليها هذا النظام، إذا انكمشت القوة الأمريكية.
ويؤكد «كاجان» أن الاعتقاد بتراجع أمريكا كقوة عظمى إنما يعتمد على انطباعات وتحليلات غير متماسكة، تتحدث أغلبها عن التحول بين وضع أمريكا الحالى، والوضع الذى اعتادت أن تكون عليه فى الماضى. ويرى أن مشكلة هذا الاتجاه تكمن فى أنه يعتمد على تحليل وضع القوة الأمريكية فى مدة زمنية معينة، ويرتكز على الأزمة العالمية التى تعصف بها.
وبإعمال المنظور التاريخى ومعايير القوى العظمى التى يمكن الاتفاق عليها، سنجد أن «تدهور القوى العظمى هو نتيجة تغيرات جذرية فى التوزيع العالمى لأشكال القوة، والذى عادة ما يأخذ فترات زمنية ممتدة ليتشكل، ونادرًا ما تسقط القوى العظمى فجأة». ويضرب «كاجان» بتدهور الإمبراطورية البريطانية مثلًا على أهمية العامل الزمنى فى التحليل.
وقد سبق لأمريكا أن تعرضت لأزمات اقتصادية طاحنة وطويلة، كما حدث فى عقود «1890-1930-1970»، وقد استطاعت على أثر كل منها أن تعود أقوى مما كانت عليه، قياسًا بالقوى الأخرى، وقد كانت عقود «1910-1940-1980» أكبر عقود القوة والنفوذ الأمريكى العالمى.
وغدًا إن شاء الله نواصل نشر ما كتبه روبرت كاجان عن أسباب التفوق الأمريكى، وهل تواجه الولايات المتحدة الأمريكية تراجعًا فى مكانتها كقوة عظمى؟