فجأة، وخلال الساعات القليلة الماضية، اشتعلت النيران فى بورصة الترشيحات لخوض الانتخابات الرئاسية 2018، وقبل الهنا بسنة.
وخرج علينا الجهابذة المالكون الحصريون للمعرفة والفهم والتحليل، بتدشين نظرياتهم ودعم كل من يرشح نفسه، ومهاجمة كل من يعارض مرشح بعينه، وتناسوا أنهم السبب وراء وصول الإخوان للحكم، من خلال الترويج لمصطلح «اعصر ليمون» لاختيار المعزول محمد مرسى العياط رئيسا للبلاد.
هؤلاء الجهابذة، من نشطاء وإعلاميين ونخب ومتثورين، لديهم اعتقاد إلى حد اليقين، أنهم يقبضون على بوصلة توجيه الشارع، والقدرة على الإقناع بأن عبدالمنعم أبوالفتوح كان الأصلح لحكم مصر من المعزول محمد مرسى العياط، وأن خالد على، زعيم سياسى، وحمدين صباحى، زعيم تاريخى، وممدوح حمزة، عبقرى زمانه والذى يفهم فى كل شىء ويستطيع أن يدهن الهواء «دوكو»، ومحمد البرادعى الهارب فى النمسا، رسول الحرية، ومنقذ البشرية، وأيمن نور الهارب فى تركيا، زعيم سياسى كبير.
ولعب هؤلاء دورًا بارزًا فى تشويه مفهوم لقب «الزعيم»، وأفرغوه من مضمونه الحقيقى، وجعلوه خاويًا، فوجدنا محمد مرسى العياط زعيمًا ورئيسًا لمصر، وبدأوا حاليًا يعيدون نفس المشهد، من خلال الترويج لشخصيات أمثال عصام حجى ومصطفى حجازى وحمدين صباحى، ومازال البحث جاريًا عن شخصيات «خاوية» لإلباسهم عباءة الزعامة.
ولم يقتصر أمر هؤلاء الجهابذة على الدفع بشخصيات «خاوية» وإنما يبذلون مجهودًا كبيرًا لإلباسهم عباءة الزعامة رغم أنف الجميع، وبدأوا فى تدشين حملة هجوم قوى ضد كل من يعارض ترشيح هؤلاء، ووضعهم فى قائمة المعرقلين للديمقراطية والحريّة، ولا يجب مطلقًا انتقاد أى مرشح.
هؤلاء الجهابذة، يمثلون الكنز الاستراتيجى فى سياسة الكيل بمكيالين، فهم لهم الحق فى الدفاع عن مرشحين بعينهم، والترويج لهم، فى الوقت الذى يصرخون فى وجه كل من يرفض ترشيح هؤلاء على أرضية الاقتناع التام بأن المرشحين لا يستطيعون إدارة مركز شباب، وليس دولة بحجم مصر.
فالزعيم لقب، لا يمكن أن نطلقه على كل من هب ودب، وإنما يطلق على من يظهر فى وقت الشدة ويختفى فى وقت الرخاء، وليس العكس، وكما قال الكاتب العبقرى أحمد بهاء الدين، فى مقال له منشور فى روزاليوسف يوم 5 مايو 1952، تحت عنوان «من هو الزعيم»، قد علمنا التاريخ أن الزعيم لا تمخض عنه محنة أو شدة، وأن نجمه لا يلمع إلا فى الظلام، فنحن لا يمكن أن نفهم دور غاندى، إلا إذا عرفنا أية هوة سحيقة كان شعب الهند مترديًا فيها وأية أمراض اجتماعية واقتصادية وأخلاقية قاتلة كانت تنهش فى كيانه، حين تصدى غاندى للزعامة.
مقال الكاتب الكبير أحمد بهاء الدين، منذ أكثر من 65 سنة، كتبه اعتراضًا على قرار حافظ رمضان باشا اعتزال السياسة، والسبب الذى دشنه فى بيان الاعتزال خاصة الفقرة التى قال فيها نصا: «الفساد ينتاب جل نواحى الحياة السياسية فى البلد وأن الوسائل المشروعة والمنطق المعقول والقيم الأخلاقية لم تعد مجدية فى هذا المضمار، وقد تردد فى فكرة الاعتزال حينا، ولكنه ما وجد إمعانًا فى الفساد وتوغلًا فى الانحلال والحياة كلها تضليل وأباطيل»!
ورد أحمد بهاء الدين على بيان اعتزال حافظ رمضان باشا، والذى شغل مناصب رئيس الحزب الوطنى، ومنصب وزير العدل، ونقيبًا للمحامين، وعضوًا بمجلس النواب، ومؤسس جريدة اللواء، قائلًا: «نحن نؤيد الباشا فى أن كل القيم والمقدسات فى هذا البلد تجتاز محنة رهيبة ولكن إذا كان الزعيم ينسحب إبان المِحنة فمتى يتقدم إذن؟! أيكون ذلك إذا صلحت الأحوال واستقرت الأمور واختفى الفساد وتحررت البلاد؟!
وَيَا سبحان الله، المقال يسرد حال مصر عام 1952، وكأنه يسرد واقعنا الحالى 2017، بنفس التفاصيل، فكم من شخصيات تحاول ترشيح نفسها لمنصب الرئاسة، وترسم لنفسها لوحة زعامة كبرى، رغم أن هؤلاء وسط الأزمات الخطيرة التى مرت بها البلاد هرب منهم من هرب خارج مصر، ومنهم من طبق سياسة القردة الثلاثة، لا أرى شرًا، لا أتحدث شرًا، لا أسمع شرًا، وعقد الصفقات مع جماعات وتنظيمات طمعًا فى الحصول على قطعة من تورتة الحكم، أو الاحتفاظ بمنصبه وهذا أقل المكاسب.
فهل مثل هؤلاء يصلحون أن يكونوا زعماء؟ يقول العبقرى أحمد بهاء الدين فى مقاله المنشور فى روزاليوسف منذ أكثر من 65 سنة، وتحديدًا يوم 5 مايو 1952: «الباشا يريد أن يكون الاشتغال بالسياسة كالاشتراك فى نادٍ أو ممارسة لعبة رياضية، والسياسة- مع الأسف- ليست نزهة رياضية فى طريق ممهد، والزعامة ليست بطولة فى التنس مثلًا.. إنما هى أن تقتحم منطقة الوباء متعرضًا لجراثيمها، وتغرس قدميك فى الطين، وتصارع حتى تلهث، وتمد يدك الخشنة إلى الشعب الغارق فى الأوحال، وشعبنا الذى ينهض من الطين بنفسه يفرح بكل يد تمتد إليه بالعون، وكل صوت يدعوه إلى هدى، وهذه هى اللحظة، التى يمتحن فيها الزعماء.. وهى اللحظة التى اختارها زعيم الحزب الوطنى للانسحاب».
وإذا أسقطنا ما قاله العبقرى أحمد بهاء الدين منذ 65 عامًا فى توصيف الزعيم، وذلك على واقعنا الحالى، فإنه لا ينطبق على مرشح، سوى الرئيس عبدالفتاح السيسى إذا قرر خوض الانتخابات، فالرجل ظهر فى الوقت الأصعب والأخطر، وبرز نجمه وسط الظلام الدامس لينير الطريق أمام إنقاذ مصر من كارثة السقوط فى بحور الفوضى والانهيار والانقراض، وتصدى لجماعات إرهابية مدعومة من دول وكيانات وأجهزة استخباراتية، وعرض مستقبله كونه وزيرًا للدفاع يتمتع بحصانة دستورية، لمدة 8 سنوات كاملة، للخطر، وحمل كفنه على يديه، وتخلى عن نصف ثروته، ونصف راتبه للتبرع بهم لمصر.
لابد من أن نسمى الأمور بمسمياتها الحقيقية، دون مزايدات وطنطنة الكلمات، وتلون المواقف، فكل الهاربين لا يمكن أن يصلحوا زعماء، وكل الذين عقدوا صفقات الحفاظ على مناصبهم، لا يمكن أن يكونوا زعماء، بل كومبارس، عفى عليهم الزمن.
ولَك الله يا مصر، من هؤلاء الجاثمين على صدر البلاد والعباد، يعبثون بعقول الناس، ويشوهون الحقائق، ويمجدون الباطل، ويشوهون الشرفاء، ويمجدون التافهون، فى زمن عبثى لم يسبق له مثيل.