هل هناك سحر؟ وهل يبكى الشيطان؟ «نعم!» تقول الساحرةُ الشريرةُ لسائليها إن هناك سحرًا، وإنها شاهدت الشيطان يبكى ذات يوم. ترفعُ سبّباتها وتشير فى وجوه الغاضبين الذين تجمهروا حول كوخها الخشبى ليفتكوا بها، قائلةً فى حسم: نعم، هناك سحرٌ، والسحرُ شرٌّ، ولكن السحر بكل فنونه ومكائده، كما رواها لنا التاريخُ فى الحكايا والحواديت والفولكلور فى كل أرجاء الأرض، وعبر كل العصور والأزمنة، تتضاءلُ شرورُه وتصغُر إلى جوار ما يفعله بعضُكم فى بعض أيها الزاعمين الفضيلة. السحرُ أقلُّ شرًّا مما يفعل الناسُ فى الناس من مكائد وخطايا حين يغارُ بعضنا من البعض، أو يحسد بعضنا البعض، أو حين نحقد أو نكذب أو نسرق أو نغتصب أو.. حين نظلم. هل أسوأ من الظلم ؟! هل هناك سحرٌ أشدُّ شرًّا من الظلم؟!
نلوم الشيطانَ على كل ما نرتكب من آثام وخطايا، باعتباره المسؤول عن سوءات أرواحنا، وننسى، أو نتناسى، أننا نربّى شياطيننا فى أرواحنا. نغذيها ونرعاها حتى تكبُر، وتتوحش آملين أن تلتهم أعداءنا. لكننا لا نكاد نفطن إلى ما يجرى حولنا، حتى تغافلُنا شياطين أرواحنا تلك، وتلتهمنا نحن، قبل أن تلتهم أعداءنا. لهذا تخبرنا الساحرةُ الشريرةُ عن أحد أهمّ وأخطر أسرارها فى دنيا السحر. يقول السرُّ: «السحر لا يقوى على الصالحين». لطالما حاولت أن تكيد لهم وتبتكر من فنونها السحرية حتى تنال منهم وتؤذيهم، لكن الخير الكامن فى قلوبهم والسلام الساكن فى أرواحهم، كان دائمًا يحميهم من شرورها وأسحارها، فينجون.
تقول الساحرةُ إنها شاهدت الشيطانَ يبكى. جلس القرفصاء ووضع رأسه بين كفّيه وراح يبكى. سمعتِ الساحرةُ أنينَه ونشيجه وهو يتحسّر على أمجادِه القديمة، حين كان الإنسانُ صالحًا، وبريئًا ونقيًّا، فكان الشيطانُ يجد سبيلَه لإغوائه وانتزاع ثمرة البراءة من قلبه حتى يستدرجه إلى عالمه السُّفلى. وحين استسلم الإنسانُ للشر والخطيئة، سنينَ وعقودًا وقرونًا، فجّر الحروب وأغرق الأرض بالدماء والأشلاء، وصار يجيد فنون الظلم وقهر المستضعفين فى الأرض، وقتئذ.. لم يعد للشيطان دورٌ. فجلس على الأرض يبكى مهزومًا، وهو يرى الإنسان قد فاقَه شرًّا وبغيًا ولم يعد بحاجة إلى إغواء الشيطان، وأبطل وظيفته على الأرض. الشيطان اليوم عاطلٌ بلا عمل.
رسالةٌ شديدة اللهجة، عميقة الأثر، مُدثّرة بقصة حبٍّ رومانسية عذبة ربطت بين قلبين غضّين طاهرين لشابٍّ وفتاة لم تستطع تعاويذ الساحرة أن تقتل حبَّهما، كما طلب منها الحاسدون، لأنهما صالحان. درسٌ بليع نتعلّمه من الساحرة الحكيمة التى أعلنت موت الشيطان فى «شارع الخير» على يدّ صنّاع السلام.
عمل مسرحّى فائقٌ شاهدتُه بالأمس على أحد المسارح الخاصة. «ليلة» هو عنوان المسرحية الموسيقية الغنائية الراقصة، التى لم تحظ مصرُ بمثلها منذ دهور ودهور. عمل مسرحى شامل تتقاطع فيه خيوط الحبكة الدرامية مع الإنتاج الفخم مع عزف الأوركسترا السيمفونى الحىّ مع الرقص التعبيرى والباليه مع الغناء الأوبرالى الرفيع مع فنون الأكروبات والسيرك، مع السينوغرافيا التعبيرية، مع إبهار الديكور والملابس والإضاءة/ وشىءٌ من الكوميديا الراقية. نعيش ساعتين فى متون الصراع الأزلى المحتدم بين الخير والشر اللذان يسكنان: «شارع الخير» و«شارع المُرّ»، المتجاورين. الصراع الأبدى بين الحب والبغضاء. بين السحر والبراءة. بين الشيطان وبين الصالحين. لمن الغَلَبة؟!
أشعرُ بالفرح لأننى عايشتُ قبل سنوات بذرةَ هذه المسرحية الفاتنة منذ كانت فكرةً وحلمًا مراوغًا فى رأس صديقى المبدع «إبراهيم موريس»، عاشق الموسيقى، الذى لم يبرحه حُلم أن يُعيد لمصر فنًّا عريقًا منسيًّا غاب عن سمائها عقودًا طوال، هو المسرح الغنائى فى مستواه الراقى. سنواتٍ وسنوات ظلّ الحلمُ يكبُر فى قلب الفتى، حتى أسس «فرقة المسرح الغنائى المصرى» عام 2016. وكان إكليل الجهد المُضنى والتعاون مع «مؤسسة القوى الناعمة للإنتاج الفنى»، هذا العمل المبهر على خشبة المسرح، الذى يصادف الليلة الأحد عرضه الختامى. كتب إبراهيم موريس القصّة والسيناريو والحوار والبناء الدرامى، وألّف موسيقاها، وقام بالتوزيع الموسيقى لها، وأخرجها المخرج الواعد «هانى عفيفى». اشترك فى هذا العمل الجميل كلٌّ من «عمرو شاكر» توزيع موسيقى، «منى التونسى» تصميم ملابس، «داليا فريد» تصميم رقصات وحركات تعبيرية، «حازم شبل» ديكور وإضاءة. وقام بالتمثيل والغناء والرقص كلٌّ من: «إيمى فريجه»، «سالى سامسون»، «زياد الشريف»، «ناتالى ميخائيل»، «زهرا رامى»، «هنا غنيم»، «عمرو كمال»، «عادل زين»، «سلمى طارق»، «إيهاب شاوى»، «شادى عبدالسلام»، «إسماعيل السوخرى»، «محمد حسن»، «روبير أمير»، «طارق نصار»، «محمد خلف»، «حسين حجاب»، «نادين بريمر». وعزفت الموسيقى الحيّة على خشبة المسرح «أوركسترا النيل السيمفونى» بقيادة المايسترو «محمد سعد باشا».
أتوجّه بالكلمة لوزير الثقافة، الكاتب الصديق حلمى النمنم، لعلمى بعشقه لفنّ المسرح وإدراكه بأن المسرح الغنائى هو أصعبُ ألوان فنون المسرح وأرقاها، وكذلك أندرها. أدعو معالى الوزير بأن يشاهد الليلة الأحد العرض الأخير للمسرحية على خشبة مسرح ماركيى بكايرو فيستيفال، علّه يقرر استضافتها على أحد مسارح الدولة، نظرًا لقيمة العمل الفنية العالية، وكذلك الرسالة النبيلة التى يقدمها العمل والتى نحن بحاجة ماسّة إليها اليوم فى مجتمعنا المصرى المشحون بالويل والتطاحن، بعدما سمحنا للخير أن يتسرّب من بين أصابعنا. شكرًا لصنّاع هذا العمل الألِق.