فى هذا المقام، علينا ألا ننسى أن المرحلة التى سادت الصين قبل تحولها للاقتصاد الحر، كانت خاضعة للنظام الشيوعى الذى لم يكن المكون الدينى والروحى للثقافة يلقى فيه ترحيباً، إن لم يكن رفضاً واضطهاداً، ما يعنى أن النظرة المادية المفرطة هى التى كانت تسود تلك المرحلة. كما ينبغى ألا ننسى أن الصين الحاضرة ما زالت تخضع «رسمياً» للنظام الشيوعى، وإن كانت قد أفرغت هذا النظام من معظم مضامينه خاصة الاقتصادية والتجارية، وهذا يعنى فى النهاية أن المكون الروحى والدينى والفكرى للحضارة، لم يجد له بعد مكاناً فى حضارة الصين الحاضرة. كما يعنى أنه لو تحقق للصين تبوأ المرتبة الأولى فى العالم «من حيث التقدم الاقتصادى والقوة العسكرية بدلاً من أمريكا»، فإن وصف المرحلة الحالية التى تمر بها «حضاريا» لن يختلف جوهرياً عن وصف «شبنجلر» للمرحلة التى تمر بها الحضارة الغربية فى الوقت الراهن.
وحتى يتضح للقارئ ما نعنيه بشكل أفضل، نعرض بشىء من التفصيل للنظريات التى تناولت هذا الموضوع، خاصة من زاوية هذين الاتجاهين اللذين يعرفان بالاتجاه التشاؤمى الذى تتبناه نظرية شبنجلر، وبين الاتجاه التفائلى الذى يمثله العالمان الأمريكيان «سوروكن» و«أجبرن».
قبل خمسين عاماً أو يزيد، خلص المفكر أوزفالد شبنجلر من دراسته لنشأة الحضارات الإنسانية وارتقائها ثم اضمحلالها وفنائها إلى استنتاج مؤداه: أن الحضارة الغربية التى وصلت الذروة فى تقدمها المادى تمر الآن بمرحلة الاحتضار والاضمحلال ثم الفناء، لتحل محلها حضارة الجنس الأصفر.
وفى محاولتنا اختبار صحة هذه الاستنتاج أو لنقل الفرضية من خلال المعلومات والحقائق الموضوعية التى تتصل بمظاهر التقدم الذى يجتاح مجتمعات الصين واليابان ودول شرق وجنوب شرق آسيا بمعدلات غير مسبوقة، وبقراءة متأنية للسياسات المتأنية التى تنتهجها تلك المجتمعات فى ظل النظام العالمى أحادى القطب، نجد أن القول بصحة هذا الاستنتاج هو أقرب للصواب منه إلى الخطأ، الأمر الذى لا بد أنه يشغل حيزاً كبيراً من تفكير مخططى الاستراتيجية الأمريكية.
لذا فإن التخوف من صحة هذه النظرية التى تقول بحتمية انهيار الحضارة الغربية لتقوم على أنقاضها ثقافة الجنس الأصفر، يبدو أنه يلقى بظلاله على سياسات الولايات المتحدة الداخلية والخارجية، تماما كما الحال بالنسبة لعلماء الاجتماع والمؤرخين وفلاسفة التاريخ المعاصرين الذين حاولوا دحض النظرة التشاؤمية التى ينظر بها شبنجلر لمصير الحضارة الغربية، وحتمية انهيارها وفنائها.
ذلك أن التقدم الهائل الذى أحرزته الصين بخاصة خلال العقود الثلاثة الماضية الذى شمل جميع الميادين الصناعية والتجارية والإنمائية وغيرها، يبدو أنه يؤيد تلك النظرة التشاؤمية التى ينظر بها شبنجلر للنهاية التى تنتظر الحضارة الغربية، ولعل من المفيد هنا أن نعرض بإيجاز لهذه النظرية والنظريات الأخرى المعارضة لها، قبل أن نسترسل فى التعامل مع هذا التفسير لدورة الحضارات والثقافات الإنسانية، باعتباره نتاج نظرية علمية يمكن أن نفسر بها اتجاهات السياسة التى تنتهجها إدارة بوش فى التعامل مع قضايا العالم بعامة، والقضايا التى تهم العالمين العربى والإسلامى بصفة خاصة، ونبنى عليها مواقف وتقديرات هى أقرب للصواب منها للخطأ.
حاول شبنجلر فى كتابه تدهور الغرب the decline of the west أن يحل مسألة انتظام الثقافات والحضارات الإنسانية، وأن يحدد مراحل التغير التى تمر بها من حال إلى حال، وقرر أنه ليس هناك تاريخ واحد ينتظم الجنس البشرى، ومن ثم فإن التقسيم التقليدى لتاريخ الإنسانية إلى تاريخ قديم ووسيط وحديث هو تقسيم تعسفى وعقيم وغير منهجى، ذلك أنه يضع الحقائق فى غير موضعها، ويجعل من تواريخ حضارات وثقافات إنسانية عريقة مجرد توابع تدور فى فلك الحضارة الغربية.
فالدلالة التاريخية الكبرى عند شبنجلر، تكمن فى تواريخ هذه الثقافات التى تتميز الواحدة منها بخصائص وسمات وأسلوب حياة تختلف عن سائر الثقافات والحضارات الأخرى، ما يعنى أن كل حضارة تمثل فى ذاتها تاريخاً مستقلاً لا يتأثر أبدا بتاريخ حضارة أخرى، ومن ثم فإن القول بوجود تاريخ واحد للجنس البشرى ينطوى على وجود ثقافة أو حضارة إنسانية ما إن تشيخ وتفنى، حتى يفنى معها الجنس البشرى كله، وهذا ما يجافى الواقع.
ويرى شبنجلر أن الحضارة الواحدة تمر بثلاثة مراحل تبدأ بالنشأة والتكوين، ثم النضج والاكتمال، وتنتهى بالشيخوخة والانحلال حتى الموت والفناء، ولن تعود للحياة أبداً.. فالتاريخ بهذا المعنى يكمن فى تواريخ كل من هذه الثقافات، ذلك أن الثقافة الواحدة كائن حىّ، له طريقه واتجاهه الذى لا يمكن أن يحيد عنه الذى ينتهى إلى الشيخوخة ثم الفناء، وغدا إن شاء الله نواصل نشر مصير الحضارة الغربية والأمريكية وهل تستطيع أن تقاوم الغول الصينى المقبل؟