ونحن نواجه الإرهاب علينا ألا ننسى كل الذين زرعوا بذرته فى المنطقة، وقبل أيام «26 مايو الماضى» رحل واحد ممن هندسوا له، وهو مستشار الأمن القومى الأمريكى بريجنيسكى «89 عاما».
كان «بريجنيسكى» مستشارا للأمن القومى وقت رئاسة جيمى كارتر لأمريكا، وفى ديسمبر عام 1979 حدث التدخل السوفيتى فى أفغانستان، فكانت الفرصة التى استثمرتها أمريكا، ووضع «بريجنيسكى» كل تصوراتها، وأدت إلى ما نحن فيه من إرهاب فى المنطقة العربية، ويلقى الكاتب الصحفى الراحل محمد حسنين هيكل الضوء على هذه القضية فى مقال له مهم بعنوان «دفاتر أزمة - الدفتر الثانى» المنشور بمجلة «وجهات نظر، فبراير 2000»، ويعتمد فيه على ثلاثة مراجع رئيسية هى، كتاب «طالبان - الإسلام والنفط والصراع الكبير فى وسط آسيا» ومؤلفه عميد الصحفيين الباكستانيين أحمد رشيد، وكتاب «الحرب غير المقدسة - أفغانستان- أمريكا والإرهاب الدولى» ومؤلفه الصحفى المخضرم جون كولى، وكتاب «الحرب غير المقدسة - وكالة المخابرات الأمريكية والمخدرات والصحافة»، تأليف «الكسندر كوكبيرن، وذى نيشن».
يذكر هيكل، طبقا لهذه المراجع، أنه فى يوم 3 يناير عام 1980 حضر «بريجنيسكى» إلى القاهرة، بعد أن تم الاستقرار فى واشنطن على خطة مواجهة السوفيت، ليس من أجل تحرير أفغانستان، وإنما لحسم معركة الحرب الباردة الدائرة مع الاتحاد السوفيتى منذ نهاية الحرب العالمية الثانية عام 1945، كان «بريجنيسكى» يحمل معه رسالة من الرئيس الأمريكى كارتر إلى الرئيس السادات، دعا فيها «مصر الإسلامية» إلى أن تقوم بدور فى «جهاد إسلامى» ضد «الإلحاد السوفيتى» الذى غزا بجيوشه بلدا إسلاميا هو أفغانستان.
استخدم «بريجنيسكى» ثمانى حجج لإقناع السادات، أبرزها، أن مصر بمكانتها الخاصة فى العالم الإسلامى مؤهلة لدور فى الدفاع عن العقيدة الإسلامية، ولا يصح ترك شعارات الإسلام العظيمة يحتكرها الإمام الخمينى زعيم الثورة الإسلامية فى إيران وللإسلام الشيعى، وأن دخول مصر فى هذا العمل «الجهاد» يعطى السادات نفوذا أوسع فى المنطقة إزاء أطراف عربية تعارض سياسته فى السلام مع إسرائيل، ومنها سوريا وليبيا والعراق، وأن قيام السادات بدور فى «الجهاد الإسلامى» يرد بشدة على أولئك الذين يتهمونه بالتفريط فى فلسطين.
واصل «بريجنيسكى» طرح حججه على السادات قائلا: إن مصر تملك مؤهلات تيسر لها العمل فى أفغانستان، بينها أنها بلد الأزهر الذى يقبل المسلمون مرجعيته، كما أنها موطن جماعة الإخوان التى تفرعت منها جماعات إسلامية عاملة فى باكستان وأفغانستان، والرئيس السادات كرئيس لمصر يملك سلطانا على الأزهر، وكسياسى فهو يحتفظ بعلاقة طيبة مع بعض زعماء الإخوان.
كان حديث «بريجنيسكى» عن الإخوان هو بمثابة إعطاء السادات للمفتاح الذى يفتح به هذا الباب، والمثير أن مستشار الأمن القومى جمع «الإخوان» و«الأزهر» فى بوتقة واحدة، مما يستدعى البحث بجدية فى تأثير هذه المرحلة على زيادة نفوذ الفكر الوهابى فى الأزهر.
وقال «بريجنيسكى»: برغم حساسيات أعرفها فإن ميدان «الجهاد الإسلامى» يستطيع جمع السلطة المصرية والأزهر والإخوان على عمل مشترك يواجه شرور الإلحاد، ولن تتكلف مصر شيئا لأن أمريكا سوف تنشئ صندوقا خاصا للجهاد فى أفغانستان تموله دول الخليج أولها السعودية، وستستفيد مصر منه بأكثر من «الجهاد وثوابه»، وذلك بعقود سخية للصناعة العسكرية المصرية، لأن الجهاد يحتاج إلى سلاح سوفيتى ومصر لديها أسلحة من هذا النوع.
اختتم «بريجنيسكى» حججه بقوله: إن مشاركة مصر تساعد الرئيس كارتر على مواجهة أصدقاء إسرائيل فى الكونغرس، وأمام كل هذه الحجج وحسب «بريجنيسكى» نفسه فى مذكراته، فإن السادات حمله رسالة إلى القيادة السعودية التى كان سيذهب إليها من القاهرة يقول فيها إنه «جاهز ومستعد للعمل، والتعاون معهم اليوم قبل غدا فى عمل جهادى ضد الإلحاد».
هكذا بدأ «بريجنيسكى»، هندسته للإرهاب فى المنطقة، وهكذا ساعده «السادات».