نعم ستظل الصين هى العقدة الوحيدة للأمريكان، والدليل أن صناعتها تغزو الأسواق الأمريكية، ومن يذهب لأمريكا ويحاول شراء أى منتج سيجد عبارة «صنع فى الصين» تتصدر تلك المنتجات، حيث أصبحت الصين هى المصدر الرئيسى لأغلب المنتجات الموجودة فى الأسواق الأمريكية، ورغم ذلك فإن أوزفالد شبنجلر، وهو من أبرز المفكرين وفلاسفة التاريخ الغربيين الذين يأخذون بالنظريات الدائرية «Cyclical Theories» فى تفسير المراحل التى تمر بها الحضارات الإنسانية، يرى أنه قرن الصين القادم، وحتى من اختلفوا معه، فإنهم يرون أن نهاية أمريكا بالإرهاب، وليس بالصين أو روسيا، وهذا الغزو الصينى هو ما أزعج الرئيس الأمريكى «ترامب»، بل وأصابه بالرعب، لأن استمرار التفوق الصينى، كما تقول التقارير الأمريكية، يهدد بإغلاق المصانع الأمريكية، وهو ما يجعل احتمالية ولادة خلايا إرهابية داخل المجتمع الأمريكى واردة.
وبعيدًا عن تلك الرؤية، فإنه من الضرورى ألا ننساق وراء الشعارات التى كانت تصدر عن الدوائر الغربية، خاصة الأمريكية منها، وتدعو لتغيير الأوضاع فى الصين دفعة واحدة، أسوة بما حدث فى جمهوريات الاتحاد السوفيتى المنحل ودول أوروبا الشرقية، دون مراعاة للأبعاد الاقتصادية والاجتماعية الخاصة التى تتميز بها الصين، فضلًا عن المشكلات الاقتصادية والاجتماعية التى تحتاج لمستوى عالٍ من التقنين والضبط، حتى تتم محاصرتها ووضع الحلول المناسبة لها.
والواقع أن القيادات الصينية استطاعت خلال العقدين الماضيين أن تجعل من ارتفاع عدد سكانها عاملًا أساسيًا لتحقيق معدلات عالية من النمو، حيث استطاعت توظيف الطاقة البشرية فى تحقيق معدلات نمو عالية بلغت فى إحدى السنوات أكثر من %12، كذلك نجحت فى استثمار موارد الصين الطبيعية بصورة جعلتها فى منأى عن الاحتكار الأجنبى، كما استغلت رخص اليد العاملة فيها فى تأمين القدرة التنافسية للمنتجات الصينية، وإغراق العالم بها.
زد على ذلك أن نجاحها فى تفعيل العقيدة السائدة بين الصينيين منذ قيام دولتهم، من أن الخطر الذى كان وما زال يحدق بالصين، إنما يأتى من التطلعات الأمريكية للسيطرة على دول شرق وجنوب شرق آسيا التى يقطنها الجنس الأصفر، ما يعتبر حافزًا ثابتًا وفاعلًا لتماسك الشعب الصينى ووقوفه أمام التيارات التى تستهدف خلخلة نظامه.
أما على صعيد السياسة الخارجية، فقد استطاعت القيادة الصينية أن تستوعب جيدًا المتغيرات التى طرأت على الساحة الدولية، خاصة بعد انهيار الاتحاد السوفيتى، وانحسار المد الشيوعى فى العالم، لذلك نرى الصين فى هذه المرحلة وكأنها تهادن القطب الأوحد الذى يفغر فاه ليبتلع العالم، فى الوقت الذى تحاول فيه إقامة شبكة واسعة من العلاقات مع العالم الخارجى.
وهنا نعود فنقول، إن ما ذهب إليه «شبنجلر» من أن حضارة الجنس الأصفر هى الوريث القادم للحضارة الغربية، يبدو أنه يتمتع بقدر كبير من الموضوعية، ذلك أن المقومات المادية والفكرية التى تتوافر لدى الصين بوجه خاص، تؤهلها للقيام بهذا الدور، فضلًًا عن أن أى محاولة لوأد هذا الدور فى المرحلة الراهنة محكوم عليها بالفشل، ذلك أن الصين تخطت ما يمكن أن نسميه- إجرائيًا- بنقطة الضعف القاتل، كما تتمتع بقوى اقتصادية وعسكرية ومعنوية تكفل صمودها ونجاحها فى صد تلك المحاولات، والخروج منها سليمة معافاة.
وأغلب الظن أن هاجس أمريكا من تنامى قدرة الصين الاقتصادية والعسكرية بصورة تصبح معها قادرة على منافستها فى قيادة العالم، أصبح الشغل الشاغل للسياسة الأمريكية الراهنة، ذلك أن هذا الهاجس قد يصبح دافعًا حاسمًا لقيام الولايات المتحدة بعمليات عسكرية ضد الدول المحيطة بالصين، بهدف احتوائها، والحد من خطورة اتساع نفوذها على المستوى الإقليمى على الأقل، وهذا ما حاولت تحقيقه من خلال حربها فى أفغانستان.
كما يمكن اعتبار هذا الهاجس من نتائج الإغراق فى المادية التى يعيشها المجتمع الأمريكى المعاصر، وابتعاده المتزايد عن الجوانب الفكرية والروحية والدينية التى نادت بها النظريات المعارضة لنظرة «شبنجلر». وحتى إذا أخذ مخططو الاستراتيجية الأمريكية بالنظريات التى تقول بأن تدخل العنصر البشرى يعين فى تقدم المجتمعات، فما الذى يضمن أن يتم تدخل أمريكا الحالى فى شؤون العالم على الوجه السليم، ولا يأتى بنتائج عكسية؟!
والدليل الحى على ذلك، تلك الحملة الهوجاء التى شنتها أمريكا على العراق، فهى وإن كانت تستهدف السيطرة على منابع النفط فى المنطقة بهدف تأمين تدفقه إليها، غير أن السؤال الذى فرض نفسه حينها على أصحاب القرار فى البيت الأبيض، والذين كانوا يصرون على تجاهله، هو: ما الذى يضمن نجاح هذا التدخل الصارخ فى تحقيق هذا الهدف؟
ثم وهذا هو الأهم، كان الحديث عن النتائج التى يمكن أن تنجم عن غزو العراق، سواء نجح هذا الغزو أو فشل، وتأثيراتها على المنطقة والعالم، بل وعلى أمريكا ذاتها الغارقة فى وحل المادية المفرطة التى ألغت أى وجود للقيم الروحية والدينية والفكرية التى يعتبرها أصحاب النظريات المتفائلة شرطًا لتجديد حيوية وشباب الحضارة الغربية التى تمر الآن بمرحلة الشيخوخة والاحتضار، انتظارًا لموتها المحتوم كما ما يقول «شبنجلر».
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة