هدف أساسى من أهداف تجديد خطابنا الدنيوى لإعادة ترتيب حياتنا ومجتمعنا هو إعادة إحياء قيمة الإتقان فيما نعمل وننتج وننجز وفى كل ممارساتنا الحياتية، بعد أن رأينا خلال العقود الأربعة الماضية كيف تسبب تخلينا عن قيمة الإتقان ، فى خسارات فادحة على مستوى الإنسان والمجتمع.
بدأ التخلى عن قيمة الاتقان المرتبطة بالعمل وبمنهج الحياة عموما، عندما بدأت عمليات غسيل عقول المصريين بعد انتصار أكتوبر المجيد بالانفتاح السداح مداح، فالسادات كان معنيا بالأساس بالانتقال من المعسكر السوفيتى إلى المعسكر الأمريكى بأى ثمن وظهرت النظرية الفهلوية بضرورة الاستسلام للمنطق الأمريكى على أساس أن الأمريكان يملكون 99 بالمائة من أوراق اللعب، لكن الارتماء فى الحضن الأمريكى عشوائيا كلف الدولة المصرية الفقيرة وأسيرة اقتصاديات الحروب ضياع أحلامها فى التنمية واستبدال أوهام الثراء السريع بها.
منذ تلك الأيام البعيدة، تآكلت القيم المرتبطة بالعمل والاتقان والمعرفة شيئا فشيئا وتوحشت السمات الاستهلاكية والمادية المظهرية فى المجتمع، وبعد أن كان الموظف المرتشى أو المقاول الغشاش موصوما طوال حياته بلعنة فساده، أصبح المجتمع يتغاضى عن قبح الجريمة مادامت لم يتم ضبط المجرم متلبسا وعدوها إحدى مهارات العصر التى يفرضها التطور.
وبعد أن كان المجتمع الكادح الطامح إلى التحرر والتنمية فى الخمسينيات والستينيات يتحرى مصادر الثروة ويجرم المشبوهة منها ويدين أصحابها، تحول المجتمع إلى المادية العمياء وأصبحت قيمة الإنسان بما يملك من مال، «معاك قرش تساوى قرش» الأمر الذى دفع خمسة أجيال تالية إلى هجرة كل ما هو جاد ويحتاج إلى مهارات وصبر فى التكوين لأن الهدف العام أصبح الحصول على النقود بأى وسيلة وبأسرع طريق.
ومن هنا انتشرت السمات الفهلوية والمظهرية الفارغة حتى غلبت على الشخصية المصرية، ولم يعد لدينا الحرفى المتمكن ولا المعلم صاحب الفلسفة ولا الصانع الماهر ولا الموظف الملتزم ولا المسؤول صاحب الهدف والاستراتيجية، أشباه النموذج المنشود طوال الوقت، لكنها أشباه بائسة أقرب إلى خيال المآتة فى حقولنا، لا يمكن أن تكون بشرا يدرك ويفكر ويتخذ موقفا من حياته ومن الآخرين ولا يمكن أن تتقن شيئا أو تتحمل مسؤولية.
إذن كيف نستعيد روحنا المصرية وسط العالم المعاصر الذى اتسعت نوافذه الاستهلاكية وأوهامه الكبرى وتراجعت فيه كل القيم المنوط بها بناء الإنسان؟ بإعادة الاعتبار إلى قيمة الإتقان والجودة على ماسواها وتثمينها غاليا ، فالمزارع الذى ينتج محصولا بدون مبيدات ووفق مواصفات الجودة الموضوعة والمدعو إليها يربح كثيرا بينما يخسر من لا يفعل وكذلك الصانع والعامل والمعلم والصحفى والحرفى والموظف.
الإتقان والجودة هما طوق النجاة للمصريين مما يراد لهم داخليا وخارجيا.