لو هناك من جملة تعبر عما نعيشه الآن، فهو "اللانظام" أو الفوضى العربية الجديدة (New Arab Disorder).
المنطقة شهدت حالتين متتابعتين من الفوضى والفراغ: "الفوضى" بعد حالة من التدخل الكثيف للولايات المتحدة في العراق في عهد جون بوش الابن ثم شهدت حالة من "الفراغ" بسبب انسحاب الولايات المتحدة من العراق في عهد باراك أوباما.
مع "الفوضى" ثم مع "الفراغ" كانت هناك فرصة لأن يحدث التمايز بين ثلاثة أنواع من القوى.
قوى التغيير؛ وقوى المحافظة على الوضع الراهن؛ وقوى ضعفت لدرجة أنها أصبحت ساحة المعركة بين قوى التغيير وقوى المحافظة.
هذا كان الإجمال، وها هي التفاصيل:
أولا قوى التغيير لها ثلاث خصائص، هي قوى صاحبة "مشروع" لإعادة صياغة خرائط المنطقة السياسية والاقتصادية والسكانية، والخاصية الثانية أنها قوى لها امتدادات خارج حدوها الوطنية أو تسعى لأن تتمدد عبر شراء ولاء أو دعم مشروط لقوى يمكن أن تدين لها بالولاء. وثالث هذه الخصائص أنها دول تحاول أن تربط مصالحها ومشاريعها الاقليمية بمصالح قوى كبرى حتى تقوم بتعبئة مواردها في ظل مظلة قوة أو أكثر من قوى النظام العالمي.
والأمثلة الأهم في هذا المقام هي خمسة مشاريع: مشروع ايراني، مشروع تركي، مشروع اسرائيلي، مشروع اثيوبي، مشروع كردي. ولنبدأ بإيران ما بعد 1979 بمشروعها الشيعي-الصفوي التي تدعي أنها صاحبة الحق التاريخي في قيادة الأمة الإسلامية بعد أن جربت أن تقاد من العرب والمغول والكرد والترك في مراحل مختلفة. إيران خلقت فضاء استراتيجيا لها يبدأ على الخريطة من طهران ليمتد شمالا إلى بغداد ثم دمشق ثم بيروت، ويمتد جنوبا إلى المنطقة الشرقية في الجزيرة العربية وصولا إلى صنعاء.
تركيا ما بعد 2000 بمشروعها "الإسلاماسي" (أي الإسلام السياسي) الذي يستهدف دعم كافة القوى التي تدعي تبني مشروع "إسلامي" يمكن أن تلتئم عناصره في شكل حلقات متصلة مركزها اسطنبول.
والمشروع الإسرائيلي الذي يستهدف: الأمن والأرض والقبول. إسرائيل آمنة، إسرائيل فوق كامل الأرض التي تستطيع احتلالها، وإسرائيل مقبولة بشروطها التي تمليها على قوى عربية أضعف منها. ونجحت إسرائيل تاريخيا في أن يكون مشروعها في قلب المشروع الغربي بإجماله وبما يضمن عدم وجود قوة كبرى في المنطقة أو بما يعوق تدفع النفط وللعالم.
والمشروع الإثيوبي الذي يستهدف تحويل المجتمع البدائي التقليدي إلى مجتمع صناعي قائم على صناعات تحويلية بما فيها تحويل الماء باعتباره المورد الأهم الذي تمتلكه أثيوبيا الى طاقة كهربائية وأداة مساومة لبناء اقتصاد أكثر تنوعا حتى لو كان ذلك على حساب مصالح شركاء تاريخيين في الماء والزرع والمرعى.
والمشروع الكردي القائم على اقامة دولة كردية ل35 مليون كردي موزعين بين شمالي العراق وشمالي غرب ايران وجنوبي شرق تركيا وشمالي شرق سوريا.
والمشروع القطري القائم على "تطليق الهوية العربية" واللحاق بالمشاريع الأخرى رهانا منها على أن العرب إذا اجتمعوا لا ينفعون صديقا ولا يضرون عدوا. قطر تحسن وضع نفسها في صلب المشروع الإيراني بالحرص على أمن إيران بل ودعم الشيعة في كل دولة عربية حتى يكون خنجرا في ظهر الأمن القومي العربي، وهي تضع نفسها في صلب المشروع التركي بدعم الجماعات الدينية (الإخوان والجماعات الجهادية) وكأنها تحلب كل البقر في نفس الوقت. وقطر تحتضن قيادات حماس والجهاد الإسلامي وتفتح مكاتب تمثيل قنصلي لاسرائيل في الدوحة والعكس.
قطر طرف ايجابي في كل المشروعات المعادية للعرب، وطرف سلبي في كل عمل عربي مشترك.
هذه قوى التغيير الراديكالى الأهم فى المنطقة العربية وتخومها وعلى حدودها.
ثانيا، هناك قوى الممانعة المحافظة فهي تعمل قبل كل شيء على الحفاظ على الخريطة السياسية والاقتصادية والسكانية بأقل قدر ممكن من التغييرات التي تتفق مع المشروعات الجزئية ولا تتفق مع مصالح القوى التقليدية في المنطقة. وعلى رأس هذه الدول تأتي مصر والسعودية والإمارات والبحرين والأردن والكويت والمغرب.
هذه الدول ليست لها مشروعات متكاملة في وقف التغيير الراديكالي الحادث في المنطقة إلا بمنطق رد الفعل في معظم الأحيان. وهذا يتفق مع فكرة "القوى المحافظة" التي تعتبر أن الزمن خير مستشار وأن الخطأ في عدم اتخاذ قرار خير من الخطأ في القرار.
ولكن تغيرا ضخما حدث في توجهات السياسة الخارجية للقوى المحافظة على مرحلتين: أولا حينما امتد الخطر الشيعي إلى شمالي الجزيرة العربية (سوريا) وجنوبي الجزيرة العربية (اليمن)، ثم ثانيا حين نهض الشعب المصري معارضا لحكم الإخوان لتبدأ المملكة العربية السعودية في قيادة تحالف عربي لمواجهة المشروعات القائمة على "تشييع" المنطقة القادمة من طهران وعلى "أخونة" المنطقة القادمة من تركيا.
هذان التغيران لم يجعلا من هذه الدول صاحبة مشروع متكامل وإنما هناك محاولات للبحث عن مساحة مشتركة رغما عن التفاوت في إدراك مصادر التهديد؛ فلا شك أن مصر والسعودية تتفقان على وحدة سوريا ولكنها تختلفان على مستقبل النظام البعثي هناك لاسيما مع تحالفه مع حزب الله وإيران.
والمطلوب أن تكون الوقفة الدبلوماسية الأخيرة ضد المشروع القطري مقدمة لتحالف جاد ومستقر ضد مشروعات التغيير الراديكالي الخمس كاملة مع مراعاة التحالفات والتقاطعات مع مصالح القوى الدولية.
وتبقى ثالثا قوى ودول مناط الصراع أي التي تشكل ساحة التنازع بين المشرعات السابقة وهي بالأساس ثماني دول عربية دخلت في حالة من الحرب الأهلية أو الاحتراب الأهلي أو هشاشة الدولة مثلما هو الحال في العراق، سوريا، اليمن، ليبيا، فلسطين، لبنان، الصومال، السودان.
المنطقة ممزقة وستستمر على تمزقها لفترة طويلة قادمة لأن كافة الأطراف تعبئ مواردها لتحقيق أهدافها وفقا لمشروعها سواء المشروع الراديكالي أو المشروع المحافظ ولنمط تحالفاتها مع القوى العالمية الكبرى.
وأي خلافات مصرية سعودية لا بد أن تتراجع بسرعة وبشدة وأن يكون نمط التحالف بين هاتين الدولتين أعلى من أي نزاعات جانبية.
إن الخطر أكبر من أن نتجاهله. والتحدي لا يمكن مواجهته من قبل الدول فرادى. ولنتذكر أن مشروعي سايكس بيكو ووعد بلفور انتصرا على مشروع استمرار الخلافة التركية وعلى مشروع الوحدة العربية وعلى مشروع الاستقلال الوطني.
مشاريعهم تنتصر ومشاريعنا تنهزم بما كسبت أيدينا.