لاشك أن الدراما البوليسية فى خياراتها الفنية والأسلوبية وجدلية نوعها تستقطب عددا كبيرا من الجمهور، ليس على مستوى الشغف والمعرفة ودهشة الاكتشاف التى تظل ساخنة فى سياق الأحداث طوال الوقت، بل لأنها بالأساس تتعامل مع مشاهد تفاعلى، مشاهد يعرف أين تضع "المغامرة" البوليسية أوزارها، سواء كانت هذه المغامرة فى نصوص مغلقة أو مفتوحة، فضلا عن كونها تفتح أفق توقعه من حلقة إلى أخرى، ومع تواتر الحلقات عادة ما تثار الأسئلة الصعبة حول مصير البطل ومن حوله من شخصيات أساسية أو ثانوية ترتبط بحياته أو تدور فى فلكه، خاصة إذا كان يحلق مع تلك الشخصيات فى فضاءات إنسانية واجتماعية تتغلب على مشاهد العنف، مثل "يحيى نور الدين" بطل مسلسل "ظل الرئيس" والذى جسده "ياسر جلال" بجدارة التحكم فى أداء الحركة والصوت، فى واحدة من أهم أدواره المتميزة ، عندما نجح فى وضع المتلقى رغما عنه على خط اللعبة الدرامية، وهى تتكئ على إبهار بصرى بتوقيع كاميرا المخرج "أحمد سمير فرج" ليحتل صدارة ممثلى "الأكشن" بجدارة فى موسم يحظى بسبعة مسلسلات من هذا النوع.
على الرغم من صعوبة الدور وتركيبته النفسية المعقدة، المضطربة فى بعض أطوارها بدافع الثأر والانتقام، إلا أن ياسر جلال استطاع بموهبته وحنكته وذكائه أن يجسد دور "يحيي" بحكم وظيفته الأساسية السابقة كحارس شخصى لرئيس الجمهورية بأداء يلفت إليه الأنظار من أول حلقة بل من "البرومو" الخاص بالمسلسل، لأنه ليس فنانا موهوبافحسب، بل يمتلك كل مقومات النجومية التى تتأخرت عنه طويلا، فضلا عن وصوله لمرحلة النضج الفنى كما لاحظنا من حلقة لأخرى، حيث يزداد تألقه رغم صعوبة الدور الذى يقدمه كما أشرنا من قبل، إلا أنه امتلك نوعا من القوة الهادئة التى تعينه فى تجسيد شخصية عصبية بالأساس، وهى أنه يبدو هادئا رغم البركان الذى يغلى بداخله، ويدير معركته بسيطرة كاملة فى سبيل التحرى والبحث عن قاتل ابنه وزوجته، وكأنه يطبق مبدأ ستانسلافسكى فى تذكير الممثل بالصفة المعاكسة للدور، قائلا: "عندما تؤدى دور الشرير، ابحث عن الجانب الطيب فيه، وعندما تلعب دور العجوز ابحث عن الجانب الفتى فيه".
ياسر جلال واحد من مدرسة الممثلين الموهوبين بالفطرة، أولئك الذين لديهم قدرة فائقة فى السيطرة الكاملة على الحركة ونبرات الصوت والتعبير بالوجه والعين بدون مبالغة فى الأداء ، وتلك قدرة لا تتوفر إلا لممثلين عظام أمثال عملاقة التمثيل المصرى " زكى رستم - محمود مرسى - محمود المليجى - أحمد زكى - نور الشريف" وغيرهم من نجوم كبار لايتكررون كثيرا ، فهم من بين القلة من الفنانين الذين لا يمكنهم فصل وسائل التعبير لديهم عن أنفسهم، لأنهم يبدعون باستخدام أجسادهم وأصواتهم وميزاتهم النفسية والعقلية؛ أى أن إبداعهم لا ينفصل عن شخصياتهم، إنطلاقا من إدراكهم الواعى بإنه لمن الصعب فصل موهبة الممثل وإبداعه عن شخصيته، غير أن التمثيل فن، وكما هو الحال فى أى فن، فلا بد من توافر عناصر أساسية لدى الممثل، مثل المقدرة والدراسة والممارسة .
هذا تحديدا ما لفت نظرى على نحو الدقة فى كل تجليات "ياسر" الإبداعية المدهشة ضمن سياق أحداث "ظل الرئيس" التى اتسمت بحبكة درامية مميزة، مغلفة بطابع من ديناميكية الحركة السريعة فى دقة متناهية، كتبها بعناية "محمد إسماعيل أمين" فى سيناريو شيق للغاية، شاركه فى معالجته دراميا "تامر عبد الحميد" ليبدو أمامك ياسر جلال فى دور "يحيى نور الدين" رجل الأعمال الحالى ، ضابط الحراسات السابق ، شخصية من لحم ودم سرعان ما تشعر بها فى ظل ارتباط القصة بحادثة حقيقية، حيث كان البطل ضمن ضباط الحراسات الذين ذهبوا مع الرئيس الأسبق محمد حسنى مبارك، أثناء زيارته لإثيوبيا، إذ وقعت حادثة محاولة اغتياله الشهيرة فى "أديس أبابا"، وتتغير حياته بعد نقل ضباط الحراسات الموجودين وقت الحادث إلى أماكن أخرى غير "الحراسات" كتقليد متبع، إلا أن يحيى يفضل تقديم استقالته، ويصبح رجل أعمال شهيرا، لديه زوجة وابن وابنة، وترحل زوجته وابنه فى حادث غامض، ليبدأ هو رحلة البحث عن اليد الخفية وراء الحادث.
تنقلب أحداث المسلسل رأسا على عقب على أثر قتل زوجته وابنه، وربما كان مشهد جنازة الإبن هو الأكثر مأساوية فى الحلقات الأولى بأداء استثنائى لياسر جلال، صحيح إن هذا المشهد تحديدا قد أدى إلى نوع من التصعيد الدرامى العنيف فى تسارع الأحداث، لكن "جلال" امتلك منذ تلك اللحظة مفاتيح الشخصيته المحورية ووضعها على وتر مشدود، وهو نوع من التركيز الذى يعد شيئًا مهما للممثل، فيجب أن يكون الممثل قادرًا على زج نفسه فى مواقف خيالية لحجب جميع المؤثرات الخارجية عنه ، موهمًا نفسه بأنه لا يمثل بل يقوم بدور حقيقى ، وهو ما أبداه على مستوى الأداء بالجسم والصوت ، بطريقة مرنة مطواعة معبرة فى عرضه مواقف عديدة ومتنوعة، وهو ما يعكس اكتسابه الخبرات الكافية واجتهاده الواضح فى التدريب على متطلبات المرونة والتحكم والتعبير، من خلال تمارين رياضية تتطلب الكثير من التنسيق والقدرة ، فضلا عن التدريب الشاق على طريقة التنفس بطريقة صحيحة ، وعلى التنويع فى إيقاع الصوت والنبرة ، وهو ديدن الممثلين المحترفين فى تحسين قدراتهم الصوتية ومرونة أجسادهم طوال مدة ممارستهم لمهنة التمثيل.
وشيئا من هذا القبيل فى أداء "محمود عبد المغني" لدور "حازم" ضابط الأمن الوطني، والذى خلط فيه جدية المحقق الشرس بنعومة إنسانية، عبر موماقف كوميدية جعلته أكثر جاذبية فى أداء انسيابى أطلق العنان لموهبته الكامنة فى أدوار الشر المطلق، ليغرج عن الطوق المفروض عليه معتمدا على الملاحظة والخيال والإلمام بالعواطف والمواقف والدوافع الإنسانية التى مكنته من القيام بدوره على نحو جيد، ليثبت هو الآخر إن الممثل الجيد يبنى فى نفسه عادة ملاحظة الآخرين وتذكر طريقة تصرفهم، لذا يبدو واضحا أنه انخرط فى تدريب طويل فى التحضير للدور جزئياً، بملاحظة كيف يتحدث ويمشى ضباط الأمن الوطنى بطريقة مغايرة لأقرانه من رجال الشرطة، وكيف يقفون وكيف يجلسون وكيف يحققون، ومن ثم طبق هذه الحركات لتتماشى مع الشخصية التى يريد تجسيدها كما ظهر بعفوية أدائه خاصة فى المشاهد التى تجمعه بالمقدم حسين، الذى أجاد فى لعب دوره "خالد محمود" وذلك بقدرته على فهم هدف كل دافع عاطفى وراء كل حركة تقوم بها الشخصية.
أما "إيهاب فهمي" على قلة مساحة الدور، فقد برع فى أن يقتصد جيدا فى قواه الأدائية لدفع هذه القوى إلى الذروة عند الحاجة، فمعظم الشخصيات تتغير أو على الأقل تتطور فى سياق تصعيد الأحداث، لكن يبقى على الممثل المحترف ذو الحنكة فى مثل هذه الحالة أن يعكس هذا التغيير أو التطور بطريقة محافظة تعكس خبرته، فلو بدأ الممثل دوره بوتيرة عاطفية مرتفعة أكثر من اللازم فسيجد صعوبة حقيقية فيما بعد فى رفع هذه الوتيرة إلى مستوى أعلى، ويفشل الدور، لأنه سيكون بعد ذلك رتيبًا ومملاً، لكن "إيهاب" بدأ على مهل حتى تسنى لهم أن يكسب دوره قوة وتشويقًا تمشيًا مع متطلبات النص المكتوب بسلاسة ودون تشنج أو عناء ينال من أدائه الذب بدا طيفا مريحا على أجواء الحداث المشحونة بالغضب.
وفى إطار الاجتهاد فى الأداء أيضا يحسب لكل من "علا غانم - هنا شيحة - دينا فؤاد – الطفلة مايان" حيث استطاعت كل واحدة منهن تحقيق الانسجمام الكامل مع البطل وباقى فريق العمل، وهو ماساهم إلى حد كبير فى ضبط إيقاع الأحداث بطريقة الأداء الموحّد الذى يعنى الإحساس بالتناغم والترابط اللذين ينتجان عن جهد الممثلين التعاونى الشامل، وعلى حد علمى فإن هذا الأداء الموحد لايأتى عادة إلا عندما يتأقلم كل ممثل مع حاجيات المسلسل ككل، ويكون فى نفس الوقت على بينة من طرق تمثيل زملائه الآخرين ومواطن ضعفهم وقوتهم، وذلك هو دور المخرج الجيد فى إدارة ممثليه على نحو يضمن أن يحقق السيناريو هدفه الأول والأخير فى المتعة والإثارة، مستغلا براعة "على عادل" فى التصوير، خاصة مشاهد الحركة، لكن تبقى السلبية الوحيدة هى استخدام نفس "الفيلا" مكان التصوير، والتى تم استخدامها فى مسلسل "لمعى القط"، ما يدل على مدى الإستسهال الذى يسلكه فريق الإنتاج والإخراج فى معاينة أماكن قريبة وعدم محاولة البحث عن ديكورات لم تطأها قدم من قبل، لكن المونتاج الذكى لـ "روبرت فاروق ومصطفى عماد ربما عالج ذلك إلى حد ما، وتبقى الموسيقى التصويرية لـ "مصطفى الحلواني" هى جزء أساسى فى إنجاح المسلسل، والجميل فيها أنها حين تصدمك فإنك لا تشعر بالألم حتى فى قلب أكثر مشاهد الحركة والعنف، بل تلامس الروح قبل القلب وتشد مشاعرك نحو مزيد من الطاقة الإيجابية والحماس الذى يقوى على احتمال الألم.