حين يقبل شهر رمضان يحمل معه من الهداية الشىء الكثير، ومن هداية رمضان ما ينبغى أن يترك أثره فى ألسنتنا، ذلك أن الألسنة تنطلق أحيانا بالأيمان صدقا وكذبا فيما يحتاج إلى يمين وفيما لا يحتاج، فيعلمنا شهر رمضان أن نضبط اللسان ونحفظ ما يصدر منه من أيمان.
إن الناظر فى دنيا الناس يرى عجبا عجابا حين يسمع من الرجل فى موقف واحد عشرات الأيمان والتى قد لا تكون على درجة كبيرة من الصدق، يقصد بها تحقيق منفعة دنيوية قليلة أو دفع مضرة غير متحققة أو غير ذلك.
وقد جاء الأمر بحفظ الأيمان فى القرآن لتجنب مثل هذا الإسراف فى الأيمان بلا مبرر ولا داع، وحفظ الأيمان إنما يكون بصيانتها عن الكذب فيها فلا تتخذ ذريعة لسلب الحقوق، وأكل الأموال بالباطل، وإذا كان الكذب خلقًا قبيحًا بشكل عام فإن الأقبح أن يكذب المسلم فى يمينه، بل هو من أكبر الكبائر، وقد يلجأ الإنسان لليمين الكاذب وهو يظن بذلك أنه يتاجر ويبيع ويشترى، وأن تصريف بضائعه لا يتم إلا بهذه الصورة، لكن النبى صلى الله عليه وسلم أخبر عن هذه اليمين وإن كانت تباع بها البضائع، نظرا لتقدير الناس لاسم الله الذى يذكر معها إلا أنها تمحق بركة المال الذى يحصل عليه الإنسان باليمين الكاذبة، يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن اليمين منفقة للسلعة ممحقة للبركة.
ولو عرف الحالف الكاذب أن يمينه الكاذبة تجر عليه من الويلات الدنيوية والأخروية ما تجر ومنها أن الله تعالى يغضب عليه، لو أدرك هذا ما حلف، يقول النبى صلى الله عليه وسلم: «من حلف على يمين صبر يقتطع بها مال امرئٍ مسلمٍ هو فيها فاجر لقى الله وهو عليه غضبان».
ويكون حفظ الأيمان كذلك بالتقليل منها، فلا يجعلها فى لسانه دائما دون داع، ولعل الحكمة فى ذلك: أن من حلف بالله فى كلِّ صغير وكبير، وقليل وكثير، لا يبقى لليمين فى قلبه وقع ولا أثر ولا تعظيم ولا تقدير، فلا يطمئن السامع إلى صدقه ولا يستبعد أن يتجرأ على اليمين الكاذبة، فيفقد الثقة فيه، ولعل الوصف القرآنى البليغ الذى وصف الله تعالى به كثير الحلف يشير إلى ذلك، قال تعالى: ولا تطع كل حلاف مهين، فهذه المهانة تأتى من كثرة الحلف ومن تعريضه لاسم الله العظيم فى أن يقسم به فيما يباح وما لا يباح، وفيما يحتاج وما لا يحتاج، والإنسان إذا عظم عنده ربه صانه من أن يستشهد به فى أغراض الدنيا دون حاجة.
ولعلنا نسمع عشرات الأيمان من واحد من الناس فى الموقف الواحد دون حاجة لذلك.
ويكون حفظ الأيمان أيضا عن الحنث فيها، فمن حلف على شىء فقد أوجب على نفسه أن يفعل أو أن يترك تبعا لما حلف تقديرا وتعظيما لاسم الله تعالى، إلا إذا كان المحلوف عليه إتيانا أو تركا خيرا من الاستمرار فى اليمين، فالحفظ هنا: أن لا تكون يمينه سببًا فى ترك الخير الذى حلف على تركه أو إتيان الشر الذى حلف أن يأتيه.
إن رمضان فرصة لتصويب حركات الألسنة، لذا ينبغى أن نخرج منه بزاد طيب يصوب هذا الخلل الذى نقع فيه، ويربى قلوبنا على تعظيم ربنا وينهى عن كثرة الأيمان بلا حاجة، ويحفظ الألسنة عن الحلف بالله كذبًا، وعن كثرة الحلف بلا حاجة، وعن الحنث فيها إلا إذا كان الحنث خيرًا من المضى فيها.