يبقى الواقع الاجتماعى فى الحيّز الدرامى هو واقع افتراضي، لكنه فى النهاية يشى وربما يحاكى فى كثير من الأحيان الواقع الحقيقى، ليبنى منظوراً مختلفاً لإشكاليات وتناقضات ناجمة فى الأساس عن فعل إنسانى أو حتى شيطانى رجيم، لذا تستدعى الدراما الاجتماعية على الدوام أسئلة مُقاربة، ليس لجهة نسبة مشاهدتها، كما الحاجة لامتدادها على الخارطة الدرامية، بل لما ينطوى عليه خطابها الدرامى من موضوعاتٍ جاذبة، أو طاردة.
و يرصد مسلسل "هذا المساء" والذى يتناول سلسلة من العلاقات المتشابكة تجرى بين طبقات اجتماعية مختلفة، بدء من "أكرم أحمد توفيق الصاوى" الذى يعمل مديرًا تنفيذيًا لواحدة من الشركات الكبرى، وزوجته "نايلة كامل" التى تعانى معه من حالة فتور عاطفى و"سمير جمال بدوى" الذي يعمل سائقًا لديهما ويقاسى هو اﻵخر صراعاته الخاصة فى المنطقة التى يعيش فيها، أو شريكه "سوني" الذى يتلصص على هواتف السيدات.
المسلسل على قدر نعومة غالبية أحداثه التى تتمتع بدفء اللحظات العفوية، إلا أن معظم شخصياته تتمع بتركيبات نفسية متناقضة، وهو الأمر الذى استلزم بالضرورة أن يتم معالجته كتابيا بطريقة سرد غير نمطية فى تسلسل الأحداث، وسيرها على نحو يحرض على التشويق والإثارة، ويجلب متعة المشاهدة المطلوبة لدى جمهور يعيش طوال الوقت بين عالمين متناقضين تماما، عالم "أكرم ونايلة" المخملى شديد الثراء، وعالم "سمير وعبلة وسونى وتريكة " الغارق فى الشعبية والفقر والعوز، ولذا لعب صاحب القصة والمعالجة الدرامية والإخراج "تامر محسن" مع ورشة الكتابة بحرفية شديدة على التركيبة النفسية المعقدة لكل شخصية بمفردها، بحيث بدت بعضها من الخارج شديدة التميز والاتساق مع النفس، بينما هى فى واقعها الداخلى تبدو غير ذلك تماما، خاصة أن "تامر" وورشته الكتابية لعبوا هنا على منطق المشاعر الإنسانية بما تحمله من تناقضات، وأن هناك أشياء قد لا تبدو مفهومة فى علاقات لاتؤدي في النهاية إلى مصير محدد يمكن أن نسير إليه.
قدمت ورشة الكتابة عبر الحلقات كل ما فى جعبتها من حيل، لتستنفد الدراما، وعلى رغم نجاحها في نقش العمل بالعمليات الصغيرة والصراعات الفرعية التي تشكل قوام الصراع الكبير، فإنها وقعت فى خلل بنائى غريب عندما أقحمت علاقة حب "شريف" الذى جسد دوره "باسل الزارو" بطريقة غير منطقية ضمن الأحداث التي أهدر فيها إمكان استخدام هذا الصراع بديلاً للمط، وكأنهم كانوا يمتلكون بالفعل أحداثاً كافية للحلقات الثلاثين، ويضنون على المتفرج ببعض الإثارة في سياق الصراع الكبير، وهو ما يأتى تحت نقاط الضعف بالعمل، خاصة فى جرأته بالغوص إلى عمق الواقع الحياتى المعاش، وكسر الجدران العالية للتابوهات المعتادة، وفضح الفساد الأخلاقي، ومجموعة من الممارسات السلبية الناجمة عن جنون استخدام التكنولوجيا في المراقبة وكشف الأسرار، والتي أصبحت ظاهرة لافتة تضج بها أغلب المجتمعات الفقيرة والغنية على السواء، جراء عمليات الابتزاز والتهديد بكشف الفضائح على الإنترنت.
فى مقدمة كتابه "خبايا صناعة الصورة" يقول القاص والناقد السينمائى المغربى سليمان الحقيوي: "تكمن روعة الفن فى قدرته اللامتناهية على مد تجربتنا الحياتية بتجارب إنسانية أخرى، ما كان لنا أن نلامسها ولا أن نتعرف عليها، كونها تسافر بنا وفينا نحو عالم خيالي مشترك، وما كان للسينما أن تتبوأ هذه المكانة الرفيعة، وتحقق هذا الإمتاع الإقناعي لولا مراهنتها على سحر الصورة وإيحاءاتها"، ولعل جانبا من هذا تحقق بالفعل في "هذا المساء" حين لامس تجارب إنسانية في حياتنا المعاصرة على جناح سحر الصورة وإيحاءاتها في الإمتاع الإقناعي بأداء كل من " إياد نصار – أحمد داوود – محمد فراج – حنان مطاوع – أروى جودة – أسماء أبو اليزيد - محمد جمعة - الطفلة ملك عاصم" ، فقد استطاعوا جميعا أن يلمّوا بالعواطف والمواقف والدوافع الإنسانية حتى تمكنوا من القيام بأدوارهم على نحو جيد، وأن يكونوا قادرين على التعبير عن أصعب المواقف.
لقد بدا لى "إياد نصار" في شخصية "أكرم" بمثابة "مايسترو" الأداء بشكل رومانسى دافيء، وهو لون جديد ومغاير تماما عليه فى أدوار سابقة كتبت له النجاح والتفوق على مدار السنوات السابقة، منذ بدايته القوية فى مسلسلات "الأمين والمأمون - الاجتياح – خاص جدا – عرس الصقر – إمرؤ القيس" ثم النقلة النوعية في حياته بمسلسل "الحجاج" إلى أن استقبلته مصر بمسلسل "صرخة أنثى" و "طريق الخوف"، وصولا إلى قمة أدواره في "الجماعة" ، والذى أكسبه نجومية وبريقا خاصا، ليصعد أكثر ويثبت أقدامه كممثل من الوزن الثقيل فى مسلسلات " المواطن X - سر علنى – موجة حارة – حارة اليهود – 7 أرواح – حجر جهنم" ووصولا إلى محطة "هذا المساء" بدور يؤكد حقيقة أن "الممثلين يولدون لا يصنعون" من حيث استخدامه حركة الجسم والصوت والإيماءة والنبرة والتقاليد، والأساليب الحرفية على مستوى الفهم العميق للشخصية، والدافع من وراء أفعالها، والمخيلة التى تصاحبها، والغرض من الوصول إلى الإنفعال المطلوب إيصاله للجمهور، فمنطق الأشياء يؤكد لنا في التحليل النهائي أنه لا أهمية لإحساس الممثل وعدمه إذا لم يحرك أحاسيس الجماهير، تماما كما فعل "إياد" فى هذا الدور الناعم جدا.
ومن ثم ظهر "نصار" كممثل بلغ نفس حالة الإبداع الإلهامي التي يعيشها المؤلف أو الرسام أو الموسيقى، ولكن فى وضع غير أوضاعهم حين تكون حالاتهم الإبداعية في خلوة خاصة، بينما هو قد أبدع حقا وسط حشد جماهيرى معين، وإضاءة معينة، وظروف أخرى محددة، فكثيرا ما أمكنه الوصول إلى تحسينات مذهلة في الصوت، بالعمل على توفير مزيد من الثقة والتلاؤم النفسي ، ليبدو صوته هامسا شجيا في لقاءاته العاطفية مع "عبلة" رغم ما يعتريه من توتر داخلي جراء برودة زوجته الأولى "نايلة" ، لكنه كان دوما يعالج هذا التوتر بشيء من الانبساط الذي يجلب الاسترخاء ، وتلك الراحة التي تجلب السعادة ، معتمدا في ذلك على وحدة البناء الشكلي ( المادي) والعاطفي والحسي والخيالي والانفعالي والادراكي بواسطة الترابط بين صدق الحواس وتجسيد الشخصية بعلاماتها الأساسية الزمانية والمكانية والاجتماعية والقومية والاقتصادية، وأن يلم بالعواطف والمواقف والدوافع الإنسانية حتى يتمكن من القيام بدوره على نحو صحيح يفضي إلى الإبداع .
ولأنه لكل فنان أبجديته الواضحة، المعززة بالقواعد الفنية الثابتة التي تقبل الجدل لأغراض التغير، فقد جاء "أحمد داوود" بدور "سمير" بنوع من الثبات الانفعالي المعهود في أدائه الذي يترك انطباعا حيويا عند الجمهور، فروح المثابرة من أهم المزايا التي تلازم "داوود" الذي يتمتع بحضور خاص أمام الكاميرا، فضلا عن امتلاكه الخيال الخلاق المتجدد، والذي بدوره يجعله دائما أن يكون مقنعا مقبولا متلائما مع نفسه شكلا ومضمونا و بمنطق لا يقبل الشك، بل يحتم عليه أن يعيش الواقع لا أن يمثله، حيث يتنفس الحياة بصدق ويضفي على الشخصية التي يجسدها حضورا حيا بامتلاكه التلقائية المطلوبة في الأداء.
أما المعايشة الإبداعية التى تقود إلى الصدق فى الأداء، فكانت من نصيب "محمد فراج" بدور "سوني" والذي يبدو أنه يهتم كثيرا بالتدريب على اللياقة العقلية والبدنية والنفسية، وتحسين النطق والقراءة الحركية والارتجال، واستجماع الأحداث الدرامية وتحديد أهدافها والظروف المحيطة بها، واللجوء إلى الذاكرة الذاتية والتسلح بالمؤثرات العاطفية والوجدانية الشخصية لمعايشة الدور الجديد، ومن هنا تبدو عليه علامات موهبة ذات قدرة فطرية على تقمص الشخصية التي يرغب بأدائها حتى لا يسقط في فخ التكلف، فمثل "فراج" لا تبقي موهبتك عند حدود معينة.
كثير من المخرجين الدراميين ينطلقون من قناعاتهم بأنهم يتعاملون مع ممثلين محترفين ، وهم يفترضون تبعاً لذلك أنهم مطالبون بتقديم أداء جيد بل بتقديم أقصى طاقاتهم الفنية ، وهذا ما فعلته "حنان مطاوع" بشخصية "عبلة" والتي حلقت معها في آفاق شعبية ، استخدمت من خلالها طاقاتها الاستكشافية والابتكارية والأدائية والاجتهادية والتمثيلية عبر الأنسنة ، في سياق الأداء التمثيلي، بالتركيز على لغة الجسد ، والتعامل معه لا بوصفه جسداً يتحرك وإنما جسد يفكر وينتج ليصنع التوازن المنشود مع الروح والواقع ، ما جعلها في النهاية تصل إلى المستويات الجسدية والحسية والعاطفية للشخصية بطريقة سهلة ومبسطة كتبت لها النجاح على مدار الحلقات .
ونظرا لأن أفضل الأصوات هى التى تصدر عن الممثل الذى يمتاز بالعفوية والاسترخاء فقد ظهرت "أروى جودة" فى أداء شخصية "نايلة" هو الهدف الأعلى والأسمى في دعم المصداقية الواقعية للشخصية التى جسدتها ، فقد كان للصوت دوره الحيوي في تعميق الأحداث التي تحيط بها, وبالتالي نجحت "أروى" في جعل وحدة الصوت ومدى إتساعه وإرتفاعه وإنخفاضه تؤثر فى المشاهد تماشيا مع صوت الموسيقى, والمؤثرات الصوتية داخل المسلسل، والتي عملت جميعها مع الصور البصرية لخلق تجربة مشاهدة بصرية تتسم بالنعومة التي تعكس برودة مشاعرها المقرونة بجزع رومانسي مقتضب خوفا على فقدان الحبيب القديم.
وفي النهاية تبقى الإشادة بالأداء واجبة لكل من"خالد أنور" فى دور "تريكة" بتلقائيته ونزقه المحبب فى أداء الشخصية " أسماء أبو اليزيد " فى دور " تقى" بعيون معبرة للغاية و" محمد جمعة " فى دور " فياض " بعنفوانه وجبروته المفرط واستخدام القوة إلى حد الرعب، و الطفلة "ملك عاصم" فى دور " نور" بذكاء وفكاهة تؤكد حضورا فنيا يكتب لها مستقبلا واعد بالتمثيل.