لابد من تأكيد أنه مهما جرى فى «نهر» العلاقات بين مصر وشقيقتها السودان من مياه «عكرة»، فإنه ومع إعلاء المصالح العليا للجارتين الشقيقتين، وحتمية التعاون المشترك فى ظل أوضاع إقليمية ودولية مشتعلة، فإن سرعان ما تصفو مياه نهر العلاقات.
فما يربط مصر والسودان روابط لا تعد ولا تحصى، ومصير الدولتين واحد، ليس من باب ترديد الشعارات، وإنما حقائق على الأرض، لا يمكن تجاهلها، أو استبعادها عن أذهان قادة وشعب الدولتين، فالتهديدات بالغة، وإذا اعتقدت إحداهما أنها بمنأى عن هذه التهديدات بالغة الخطورة، فهى واهمة، ولا تقرأ الحراك الإقليمى والدولى جيدا.
السودان، لا يمكن أن يرتكن إلى دول بعيدة عن حدوده، أو دول تتقاطع اهتماماتها وعرقها وديانتها مع الخرطوم، ومصر هى الوحيدة المعنية والقادرة على حماية الأمن القومى السودانى بمفهومه الشامل، ومهما قلل الخبراء الاستراتيجيون والناصحون بالسودان الشقيق، من أهمية دور مصر فى حماية الأمن القومى لبلادهم، والعكس، فإن الواقع على الأرض يصرخ بهذه الحقيقة.
لكن، وللأسف، القيادة السودانية، أبهرتها وعود قطر، وإثيوبيا، الأولى تدعمها ببضع ملايين الدولارات، والثانية أسدت لها وعود الشراكة الاقتصادية، ومدها بالكهرباء التى سينتجها سد النهضة عقب اكتمال بنائه فى مقابل غض الطرف عن احتجاج مصر على بناء السد، والتزام الصمت المعلن والدعم السرى.
ووجدنا تعالى نبرات الهجوم على مصر، بمناسبة، وبدون، والزج بالقاهرة فى كل الجمل، سواء مفيدة، أو غير مفيدة، وافتعال أزمات، غريبة، بدءا بأزمة حظر المنتجات الزراعية المصرية، وإثارة قضية حلايب وشلاتين، واتهام مصر بدعم متمردى دارفور، وهو اتهام خيالى، ويتصادم مع العقل، أخلاقيا وجغرافيا، فمصر تتبنى سياسة قائمة على الشرف والقيم الأخلاقية، وعدم التدخل فى شؤون الغير، ومنشغلة فى البحث عن حلول لأزماتها الداخلية، والاستمرار فى استكمال بناء سياستها الخارجية وتعميق علاقتها مع مختلف الدول إقليميا ودوليا، وفى ظل انشغالها بما يدور على حدودها الشمالية الشرقية والغربية، فليست لديها رفاهية التدخل فى إقليم دارفور البعيد جغرافيا!!
كما أن مصر تؤمن بضرورة استقرار الجارة الشقيقة، وبناء قدرتها الاقتصادية والأمنية، وهو ما ينعكس على قدرات السودان فى حماية حدوده، ومنع المتطرفين والجماعات الإرهابية من العبث على أراضيها، فمصر ليس من مصلحتها أن تعيش وسط نيران مشتعلة على كل حدودها.
وعلى القيادة السودانية أن تعى، أن القاهرة أقرب لها جغرافيا، ولديها قدرة عسكرية أكبر من «الدوحة» البعيدة عن الخرطوم وتمثل لها سرابا وسط الأزمة، وليست بالقوة القادرة على حماية وحفظ أمن واستقرار الجارة الشقيقة، لذلك فإن زيارة وزير الخارجية السودانى الدكتور إبراهيم غندور للقاهرة، خلال الساعات القليلة الماضية، والجلوس على مائدة الحوار والمناقشة مع القيادات فى مصر، أمر مهم وجوهرى، فالخلافات فى وجهات النظر، لا يمكن تقريبها إلا من خلال الجلوس على مائدة الحوار، مع تأكيد أن السودان يمثل العمق الاستراتيجى للأمن القومى المصرى، والعكس، ومن ثم يجب على كل المؤسسات المعنية فى الدولتين إعلاء شأن المصلحة العليا للبلدين، والارتقاء فوق الأزمات، ومناقشة كل الخلافات فى الغرف المغلقة، وعدم السماح لوسائل الإعلام ومواقع السوشيال ميديا بالعبث فى العلاقات بين البلدين، ومنع هواة الصيد فى «الماء العكر» عن إثارة الأزمات بين الشعبين الشقيقين.
وعلى سبيل المثال، تبنت وسائل إعلام الخرطوم حملة غربية، عن أن مصر استطاعت أن تنتزع موافقة كل من إريتريا وجوبا على إقامة قواعد عسكرية هناك، وبدأت الترويج لهذا الأمر وكأنه أمر يهدد الأمن القومى لبلادهم، مع العلم أنه لا توجد معلومات حقيقية عن وجود قواعد عسكرية مصرية سواء فى إريتريا أو جوبا.
وإذا افترضنا صحة الخبر، فما الذى يضير الأشقاء فى السودان من وجود قواعد عسكرية مصرية فى القرن الأفريقى، خاصة إذا وضعنا فى الاعتبار أن إسرائيل تعبث هناك بكل قوة، ولن نكون متجاوزين إذا أكدنا أن منطقة القرن الأفريقى وأعالى النيل، أصبحت مسرحا لمختلف دول العالم، الكل يتهافت ويسارع فى الحصول على امتيازات ونفوذ كبير بالمنطقة، وإذا كانت إسرائيل مسيطرة على الأرض هناك، وهى العدو التقليدى للخرطوم قبل مصر، فلماذا ينزعج الأشقاء فى السودان من وجود قواعد عسكرية مصرية فى إريتريا أو غيرها؟!
للأسف يغيب عن ذهن الأشقاء فى السودان، اهتمام إسرائيل بالتواجد بشكل مكثف فى القرن الأفريقى ودول حوض النيل، وتمارس ضغوطا بشكل غير مباشر لتحقيق أهدافها، وذلك بالإسهام فى مشاريع إثيوبية لإنشاء سدود على نهر النيل الأزرق، وما يستتبع ذلك من قلق وتوتر فى المنطقة بشكل يحقق توقع الراحل الدكتور بطرس بطرس غالى، وزير الدولة للشؤون الخارجية الأسبق، عندما قال نصا: «إن الحرب المقبلة فى الشرق الأوسط بسبب مياه النيل وليست بسبب الاختلافات السياسية».
ورغم عدم وجود أى معلومات، أو تأكيدات سواء من القاهرة أو أسمرة وجوبا، بوجود قواعد عسكرية مصرية، فإن ما تثيره وسائل الإعلام السودانية، لا يتسق مع الأمن القومى السودانى قبل المصرى، والأشقاء لا يدركون مخاطر انتشار السرطان الإسرائيلى وعبثه فى أعالى النيل، وأن التواجد العسكرى المصرى فى منطقة أعالى النيل، يطمئن «الأشقاء»، ويعيد التوازن مع «الغرباء»، ومنافعه أكبر وأعظم للخرطوم والقاهرة معا.