جمع بين ضخامة البناء، ودقة الصناعة، وتنوع الزخارف، فاستحق أن يوصف بأنه تحفة معمارية خالصة، هو مسجد السلطان حسن فى منطقة القلعة بمصر القديمة، والذى يعد فخراً للعمارة الإسلامية القديمة، قال عنه "جومار" فى كتاب وصف مصر: "إنه من أجمل مبانى القاهرة والإسلام، ويستحق أن يكون فى المرتبة الأولى للعمارة العربية بفضل قبته العالية، وارتفاع مئذنته، وعظم اتساعه وفخامة وكثرة زخارفه"، ووصفه الرحالة المغربى "الورتلانى" بأنه "مسجد لا ثانى له فى مصر ولا غيرها من البلاد فى فخامة البناء ونباهته، كما وصفه المقريزى بأنه "لا يُعرف فى بلاد الإسلام معبد من معابد المسلمين يحاكى هذا الجامع".
السلطان حسن
أما عن السلطان حسن فهو أحد أبرز سلاطين المماليك، وهو الناصر حسن بن السلطان الملك الناصر محمد بن السلطان الملك المنصور قلاوون، ويعتبر ملك مصر التاسع عشر من المماليك الترك، والسابع من أولاد الناصر محمد بن قلاوون، تولَّى السلطنة مرتين، إحداهما سنة 748هـ وكان عمره آنذاك 13 سنة، ثم تولى ثانية سنة 755هـ بعدما سجن لمدة ثلاث سنوات.
بدأ "حسن" يتصرف كسلطان حقيقى بعدما انتهت فترة الوصاية وبلغ سن الرشد، ولكن بعد شهور قليلة وقع المشهد الذى يتكرر كثيراً فى العصر المملوكى، وهو صراع الأمراء على الحكم وتم القبض عليه وعزله من الحكم وإيداعه السجن، وتنصيب شقيقه "صالح" الذى لقب بالملك الصالح صلاح الدين صالح، وما لبثت الحرب أن اندلعت من جديد وخلعه الأمراء أيضاً وقرروا عودة السلطان حسن، وفى تلك المرة عاد قوياً، بعدما صار شاباً ذاً خبرة بأمور الصراع فى هذه السن المبكرة. وصفه المؤرخون بأنه كان ملكاً حازماً، مَهيباً، وشجاعاً، صاحب كلمة نافذة، لم يعتد شرب الخمر، ولم يرتكب فاحشة ظاهرة، فاختلف عن كثير من ملوك وأمراء المماليك،كما كان ذكيا وعاقلاً، رفيقاً بالرعية، ومتديناً وشهما.
مسجد السلطان حسن
تاريخ إنشاء مسجد السلطان حسن
أنشئ المسجد على قطعة أرض كانت تعرف باسم "سوق الخيل" فى ميدان الرميلة، تلك المنطقة التى تقع حالياً فى ميدان صلاح الدين والسيدة عائشة، كان السلطان الناصر محمد بن قلاوون قد بنى عليها قصراً ضخماً ليسكنه أحد أمرائه المقربين، وهو يلبغا اليحياوى، وعندما شرع السلطان حسن فى بناء جامعه سنة 1356م، هدم القصر وما حوله، وتكلف إنشاؤه أموالاً طائلة (قيل إنها 750 ألف دينار من الذهب، حتى إن السلطان كان يبدو عاجزاً عن إتمام بنائه، وقال لولا أن يقال إن ملك مصر عجز عن إتمام بناء بناه لتركته بناء هذا الجامع من كثرة ما صرفت عليه)، بسبب ضخامة البناء وشموخه، واتساع مساحته.
ويعتمد تصميم مسجد السلطان حسن على التخطيط المتعامد، يتوسطه صحن مفتوح محاط بأربعة إيوانات، كل منها مغطى بقبو، أعمق هذه الإيوانات الذى يقع فى اتجاه القبلة، ويضم المحراب والمنبر، وتوجد فى وسط الصحن نافورة تعلوها قبة بنيت على ثمانية أعمدة، ويضم الصحن أربعة أبواب تفتح على أربعة مدارس، تمثل المذاهب الأربعة التى كان أكبرها المذهب الحنفى، وتضم كل مدرسة صحنا وإيوانا مفتوحا، وفى وسط الصحن نافورة، وتطل على الصحن طبقات من الحجرات بعضها فوق بعض، وتقع غرفة الدفن خلف حائط القبلة، وللمدرسة مئذنتان تقعان عند الواجهة الشرقية، ويقع المدخل الرئيسى عند الركن الغربى للواجهة الشمالية. ويظهر نمط المدرسة التأثير السلجوقى على العمارة المصرية.
المسجد والمدرسة
وأنشئ المسجد على نظام المدارس ذات التخطيط المتعامد، وتعد كل مدرسة مسجداً صغيراً، وكل منها مخصصة لتدريس مذهب من المذاهب الإسلامية الأربعة "الشافعى، المالكى، الحنبلى، والحنفى"، أكبر هذه المدارس الحنفية، وخصص لكل مذهب شيخاً ومائة طالب، فى كل فرقة خمسة وعشرون متقدمون، وثلاثة معيدون، وحدد لكل منهم راتباً حسب وظيفته، وعين مدرساً لتفسير القرآن، ومعه ثلاثين طالباً، كما عين مدرسا للحديث النبوي، وخصص له راتبا 300 درهم.
ولضمان انتظام العمل بالمدرسة عين السلطان حسن اثنين لمراقبة الحضور والغياب، أحدهما بالليل والآخر بالنهار، وأعد مكتبة وعين لها أميناً، وألحق بالمدرسة مكتبين لتعليم الأيتام القرآن والخط، وقرر لهم الكسوة والطعام، فكان إذا أتم اليتيم القرآن حفظاً يعطى 50 درهماً، ويمنح مؤدبه مثلها ومكافأة له.
أما باب المسجد فهو ليس بابه الأصلى، حيث كان مغطى بالمعدن والنحاس، وسرقه السلطان المؤيد شيخ ووضعه على باب مسجده فى منطقة باب زويلة وما زال موجودا حتى الآن يحمل اسم السلطان حسن، وكان من المقرر إنشاء أربعة مآذن للمسجد، اثنان حول القبة الشرقية، والثالثة على يمين المدخل الرئيسى بالواجهة الشمالية، وبعد بناء المئذن الثالثة سقطت وعصفت بأرواح الكثيرين، قيل إنها قتلت حوالى 300 طفل، لم ينج منهم سوى 6 فقط.
أكبر مئذنة فى مصر
ومن الوهلة الأولى عند النظر إلى مسجد السلطان حسن من بعيد تخطف أنظار الجميع مئذنته، التى تعلو إلى عنان السماء لتقطع حوالى 81 مترا فوق المسجد، كأطول المآذن في مصر، الأمر الذى يعطى المسجد طابعاً خاصاً بين الآثار الإسلامية فى مصر، ويتوافد عليه السائحون من جميع أنحاء العام فتبهرهم الدقة فى الإبداع المعمارى فى ذلك العصر.
مسجد السلطان حسن (5)
زيارة أوباما وهيلارى كلينتون لمسجد السلطان حسن
جمال المظهر والإبداع المعمارى جعل مسجد السلطان حسن مزاراً سياحياً مهماً يحرص جميع الوافدين على زيارته، وكان أبرزهم الرئيس الأمريكى السابق باراك أوباما وزوجته ووزيرة خارجيته هيلارى كلينتون وسفيرة الولايات المتحدة بمصر آنذاك آن باترسون، خلا الزيارة التاريخية للرئيس الأمريكى لمصر عام 2009، والتى استمرت حوالى تسع ساعات قضى منها 37 دقيقة داخل المسجد، يتجول بين جدرانه منبهراً بعظمة الحضارة الإسلامية وفن العمارة فى العصر المملوكى.
اوباما خلال زيارته لمسجد السلطان حسن
استمر العمل فى بناء المسجد حتى مقتل السلطان على أيدى بعض أمراء المماليك، عندما كان فى رحلة صيد سنة 762 هـ (1360 م)، وألقوا جثته فى النيل، ولم يعرف له قبر، بينما ينسب للمقريزى قوله، إن السلطان حسن دفن فى مصطبة بداره بقلعة الكبش بحى السيدة زينب، وهناك من يقول إنه دفن فى كيمان الفسطاط ـ أكوام مدينة الفسطاط التى تم حرقها فى أواخر العصر الفاطمى ـ أياً كان مكان دفنه فإن قبة السلطان حسن فى مسجده الآن خالية من جثته.
اوباما خلال زيارته لمسجد السلطان حسن
وبعد اغتياله أكمل بناء المسجد تلميذه الأمير بشير الجمدار لينتهى بعد أربع سنوات، ومازال المسجد علماً أثرياً يجسد عظمة فن العمارة فى ذلك العصر، ولا تزال صورته مطبوعة على العملة المصرية فئة المائة جنيه، كنوع من الترويج السياحى للمعالم الأثرية المصرية، ومع ذلك لا يزال صاحب ذلك الأثر الإسلامى الأضخم فى العمارة بالعصر المملوكى فى مصر.
اوباما خلال زيارته لمسجد السلطان حسن