منذ أن خطّ المصرى القديم أول حروف أبجدية اللغة المصرية القديمة بخطوطها الثلاثة «الهيروغليفية والهيراطيقية والديموطيقية»، ليسجل لنا تفاصيل حياته اليومية بدقة متناهية، وبشكل مدهش ومبهر، اكتشفنا ومن خلال السرد المحكم للوقائع والأحداث السياسية بمفهومها حينذاك، أن توظيف الدين فى السياسة ظهر مبكرًا، ومنذ الدولة القديمة، ثم تبلور واكتسب أهمية قصوى فى الدولة الحديثة، وتحديدًا الأسرة 18 من الأسر الفرعونية!
وبشكل عام، كان الكهنة يلعبون دورًا محوريًا فى إقحام الدين فى السياسة، وهو مسجل نصًا على جدران المعابد والمقابر، وجاء القرآن الكريم ليؤكد هذه الروايات والنصوص الأثرية تأكيدًا قاطعًا، عندما قال المولى عز وجل فى صورة «القصص»: «... إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ».
و«هامان» ليس وزيرًا لفرعون «موسى» فحسب، وإنما هناك إجماع من المؤرخين على أن «هامان» كان كبير الكهنة، ومن ثم كان المقرب وصاحب المشورة للملك الفرعون، الذى فشلت كل اجتهادات المؤرخين والأثريين المصريين والأجانب فى تحديد اسمه بدقة، سواء أكان رمسيس الثانى أم مرنبتاح أم غيرهما من الملوك المصريين الكبار.
دور «هامان» القوى والفاعل بجوار الملك الفرعون، وهو كبير الكهنة، يؤكد أن نفوذ رجال الدين فى التوغل لقصور السلطة والحكم لم يكن وليد اليوم، أو الأمس القريب، لكنه متوغل ومتجذر منذ آلاف السنين، وعندما انتهى العصر الفرعونى باحتلال البطالمة مصر، أدركوا- اليونانيون- حينذاك أن الدخول لقلوب المصريين لن يتأتى إلا من بوابة «الدين»، فاستمروا فى التدثر بالعباءة الدينية، لإيهام المصريين بأنهم أتقياء يحافظون على مقدسات الفراعنة.
ثم تسلّمت الكنيسة المصرية- منذ أن دخلت المسيحية مصر قادمة من فلسطين- الراية، لتقحم نفسها فى السياسة أيضًا، وعندما دخل الإسلام مصر، وتأسس جامع الأزهر، تسلّم الراية، وأقحم نفسه بقوة فى الحكم، وأصبح الأزهر رقمًا صحيحًا فى معادلة إقحام الدين فى السياسة من الأبواب الواسعة، ومانح صكوك الشرعية الدينية لمن يريد أن يصل إلى مقرات السلطة.
ونبدأ بأول قصة توظيف الدين فى السياسة، فى تاريخ مصر، بكل ما تعنيه الكلمة من معنى، بشكلها وطريقة تنفيذها، وما ترتب عليها من نتائج سياسية مهمة ومحورية، والقصة تعود إلى عام 1493 قبل الميلاد، أى منذ أكثر من 3 آلاف عام تقريبًا.
ذاك التاريخ يمثل بداية حكم الملكة حتشبسوت، التى شهدت قصة توليها حكم مصر أولى خطوات تدشين إقحام الدين فى السياسة، فحتشبسوت كانت زوجة الملك تحتمس الثانى، وهناك تأكيدات من عدد كبير من المؤرخين بأنها كانت تدير حكم مصر من خلف الستائر، مما فتح شهيتها إلى درجة الشراهة للجلوس على عرش البلاد، وأنجبت حتشبسوت فتاة، ولم تنجب ذكرًا، فى حين تزوج الملك تحتمس الثانى من زوجة «ثانوية»، أى من خارج العائلة الملكية، وأنجب منها تحتمس الثالث، وتوفى الملك تحتمس الثانى فى ظروف غامضة، وتردد أن حتشبسوت متورطة فى قتله، لتجلس على عرش مصر، ولكن كيف يحدث ذلك فى ظل وجود تحتمس الثالث ابن زوجها، وصاحب الحق فى إرث حكم مصر، ونظرًا لصغر سنه، أصبحت حتشبسوت الوصية على العرش.
طموح حتشبسوت الكبير فى حكم مصر منفردة ازداد استعارًا، وبدأت فى العام السابع من حكم تحتمس الثالث تتضجر وترفض الاكتفاء بدور الوصية على العرش، فقررت الاستيلاء على الحكم منفردة، إلا أنه كانت هناك عقبة كبيرة تحول دون تنفيذ مخططها بالسيطرة والاستحواذ على حكم مصر بشكل منفرد، والتى تتمثل فى رفض الشعب المصرى أن تحكمه امرأة، وهنا قفز كهنة «أمون رع»، أبوالأرباب، على سطح الأحداث، وأقنعوا الملكة الطموحة المشتاقة لحكم مصر بأن فى مقدرتهم مساندتها ودعمها لتتولى الحكم منفردة.
حتشبسوت وجدت ضالتها فى وعد الكهنة، ووافقت على كل شروطهم، من بينها الحصول على المقابل المجزى، من صلاحيات دينية وسياسية كبيرة، وأموال ضخمة يتم رصدها للمعابد، وبدأ الكهنة يدشنون رواية تقنع الشعب المصرى حينذاك بقبول تنصيب حتشبسوت ملكة للبلاد، وتوصلوا لقصة من قصص إبليس فى الحبكة الدرامية.
فصول القصة بدأت بأنه فى ليلة مقمرة كان «أمون رع»، أبوالأرباب، يتجول للاطمئنان على أحوال الرعية فى طيبة، الأقصر حاليًا، وشاهد سيدة تجلس أمام منزلها، فأعجبته وأسرته بجمالها، فدخل بها، وهو ما أثمر عن حملها، فأشهد آلهة الأقاليم على الواقعة، ومرت الأيام، وأنجبت السيدة طفلة أطلقت عليها اسم حتشبسوت، إذن حتشبسوت هى ابنة الإله، فمن يعترض على أن تتولى «ابنة الرب» حكم مصر؟!
هذه القصة مسجلة نصًا على جدران غرفة تحمل اسم «غرفة الولادة» بمعبد الأقصر، ومن ثم انتقلت حتشبسوت من الوصية على العرش إلى ملكة «منفردة»، واتخذت لنفسها جميع الألقاب الملكية، وارتدت ملابس الرجال لإقناع الشعب المصرى بأنها تستطيع الحكم.
القصة تظهر نفوذ وسطوة رجال الدين، وشهوتهم للجلوس فى قصور السلطة، والتأثير فى صنع القرار، حتى ولو كان من خلف الكواليس، ونسج كهنة «أمون رع» أول خيوط إقحام الدين فى السياسة، وأعتقد أنه ومنذ ذاك التاريخ سيطر مشهد توظيف الدين فى السياسة على المشهد العام، حتى حكم جماعة الإخوان الإرهابية، أى منذ ما يقرب من 3 آلاف و509 سنوات!