تتعدد تعريفات واستخدامات مفهوم الأيديولوجيا، وعلاقته بالواقع والوعى الاجتماعى والسلطة السياسية والعلم والمعرفة. وبداية يبرز الأصل والاستخدام اللغوى لكلمة الأيديولوجيا، حيث ورد فى معجم العلوم الاجتماعية أنها كلمة مُعرّبة، وأصلها مُركّب من Idea بمعنى فكرة، وLogic بمعنى علم أو منطق، فهى اشتقاقاً «علم الأفكار»، ويرى «مراد وهبة» أنها كلمة لاتينية الأصل ومكونة من مقطعين، أما «عبدالله العروى» فيركز على أن كلمة أيديولوجيا تعنى لغوياً «علم الأفكار» فى أصلها الفرنسى، ثم استعارها الألمان وضمنوها معنى آخر.
ويعرف «كارل ما نهايم» الأيديولوجيا بأنها نتاج عقلى، وظيفته حجب الطبيعة الحقيقية لمجتمع ما وهى تتبع من عقول الذين يستهدفون تثبيت نظام اجتماعى بعينه، وما «اليوتوبيات» إلا أحلام تلهم العمل الجمعى لجماعات المعارضة، التى تهدف إلى تغيير المجتمع تغييراً شاملاً. وبصفة عامة يوجد اتجاهين أساسيين متصارعين حول معنى الأيديولوجيا، الأول: هو الاتجاه الماركسى الذى يشير إلى ضرورة التأكيد على تكامل البناءين الفوقى والتحتى فى تساند ضرورى، الذى يُصّر على أن مركز الثقل فى الأيديولوجيا تحدده الطبقة المهيمنة فى المجتمع.
والاتجاه الثانى: المثالى الذى يرفض فكرة الأيديولوجيات المهيمنة، أى المرتبطة بطبقة مسيطرة، ويقول بتعدد الأيديولوجيات وتوازيها، وفى إطار هذا الاتجاه ظهر التحليل السوسيولوجى البنائى الوظيفى الذى يرى الأيديولوجيا نسقاً للمعتقدات والأفكار الموجهة، والتى لها أصل أمبيريقى، وهذه المعتقدات والأفكار تمنح الإنسان تفسيراً لطبيعة الجماعة، وللمواقف التى تقف فيها، والعمليات التى نمت بها حتى وصلت إلى حالتها الراهنة، ثم الأهداف التى يتوجه إليها أعضاء الجماعة، وكذا علاقاتهم بمسار الأحداث فى المستقبل.
وكان «كارل ماركس» قد أحيا مفهوم الأيديولوجيا واستخدمه بمعنى الوعى الزائف، الناتج من التكوين الطبقى بهدف ستر التناقضات الطبقية، ويرى «ماركس» أن دور العلم هو كشف التشويه الأيديولوجى وليس القضاء عليه، لأن القضاء عليه يقتضى تغيير الواقع. أما «لينين» فقد قدم مفهوماً إيجابياً ممتدا للأيديولوجيا، ينطلق من كون الأيديولوجيا هى مجموع أشكال المعرفة والنظريات التى تنتجها طبقة معينة للتعبير عن مصالحها، وبذلك ارتبطت الأيديولوجيا بالطبقة بصرف النظر عن تقييمها المعرفى.
وقدم الإيطالى «انطونيو جرامشى» A.Gramsci تعريفه للأيديولوجيا باعتبارها وحدة بين نظرة فكرية شاملة للوجود وقواعد السلوك المرتبطة بها، أى أنها تساوى الفلسفة والنظرة الكونية الشاملة، وتساوى السياسة، أى مجمل الأفكار التى تحرك مجتمعاً ما أو تكون أساساً لوجوده وحركته وهى لا تشمل النظريات والأفكار العامة فقط، بل تشمل كذلك كل أنساق القيم والمعتقدات. وأكد «جرامشى» على أن الأيديولوجيا ليست تعبيراً عن النظام الاقتصادى. ومن هنا ميزها عن البناء الفوقى بمفهوم «ماركس»، ووصل إلى أن الأيديولوجيا ليست طبقية. ويرى جرامشى أنه لا يمكن المطابقة بين الجماهير فى مجال حركتها السياسية وبين الطبقات الاجتماعية على المستوى الاقتصادى، لأن الإنسان فى حركته تعبير عن نسق أيديولوجى أوسع من مجرد وضعه فى علاقات إنتاج.
ولكى تكتمل نظرة «جرامشى» للأيديولوجيا لابد من التعرض لأفكاره بشأن مرحلة الهيمنة والطبقة المهيمنة، ويقصد «جرامشى» بالهيمنة ذلك الوضع التاريخى الذى لا تقتصر فيه السيطرة الطبقية على مجرد استخدام العنف والقوة. بل تشمل وظيفة القيادة كما تشمل وظيفة أيديولوجية من نوع خاص، تضمنان قيام العلاقة بين الحاكمين والمحكومين على أساس من الرضا الإيجابى.
أما الوظيفة المهيمنة فهى التى استطاعت من خلال الصراع الأيديولوجى أن تحقق بناء أيديولوجيا يربط مصالح وطبقات وجماعات أخرى بمصالحها، ولا يستطيع أن يحقق ذلك سوى طبقة أساسية فى المجتمع، أى تشكل أحد محورى الصراع الطبقى الذى يعبر عن نمط الإنتاج فى المجتمع، ولكن هذه العملية لا يمكن أن تتحقق إلا إذا تنازلت هذه الطبقة الأساسية عن مصالحها الضيقة حتى تستطيع أن تضم إليها طبقات أخرى. ويرى «جرامشى» أن القومية والوطنية هى الرابطة التى يمكن للطبقة المهيمنة من خلالها أن تعبر عن تمثيلها للمجتمع ككل، وتحقق بذلك نوعاً من العلاقة بين الحاكمين والمحكومين تقوم على أساس الرضاء الايجابى العام.
لكن أعتقد أنه يجب إضافة الرابطة العالمية، لأنها حققت عبر التاريخ أنواعاً من الهيمنة، فقد استخدمتها الحركة الشيوعية، ووظفها أيضاً الاتحاد السوفيتى لصالحه، كذلك فإن جماعة الإخوان والجماعات الإسلاموية «التى تدّعى تمثيل الإسلام والحديث باسمه» قد استغلت الرابطة العالمية التى يدعو إليها الإسلام لصالحها، وادعت تجسيد مفهوم الإخوة الإسلامية والخلافة الإسلامية التى تضم كل المسلمين، ووظفت ذلك كله لصالح تحقيق أهدافها السياسية. علما بأن الإسلام ليس أيديولوجية بالمعانى التى تناولها المقال، فهو دين سماوى، والدين عند الله هو الإسلام، بينما قامت الجماعات الإسلاموية بتحويله إلى أداة أيديولوجية لتحقيق مصالح وأهداف سياسية دنيوية.