زى النهارده من كام سنة، نزلت إلى مكتبة «سمير وعلى» واشتريت «فرخ كبير» مقاس 100×70 سم، فبريانو أحمر بلون الغضب، رجعت البيت، فتحت درج مكتبى، وأخرجت عِدّة الرسم الهندسى اللى من أيام الكلية، لما كنت فى قسم عمارة بهندسة عين شمس، قلم رصاص سنون 0.5 مم، مسطرة T-square، مثلت 30-60 لزوم الزوايا القائمة، وكاتر حادّ، كحِدّة الغضب فى قلبى، فردت فرخ الورق فوق ترابيزة الرسم وثبّته بالسولوتيب، وقسّمته بالمسطرة والمثلث والقلم: 20 خطا رأسيا، و10 خطوط أفقية، وبدأت أدوس على الخطوط بالكاتر المسنود ع المثلث، وفى الأخير كان بين إيديا عدد 200 مستطيل ورق مقوى مقاس 7×5 سم. 200 كارت أحمر.
النهارده الجمعة 30 يونيو 2017، زى النهارده من أربع سنوات، الأحد 30 يونيو 2013، كان قد مرّ علينا شهر فى اعتصام المثقفين، داخل وزارة الثقافة وأمامها بشارع شجر الدر، بالزمالك. سيبنا بيوتنا وعيالنا وحياتنا وجينا نعتصم اعتصامًا مفتوحًا للمطالبة بإقالة الوزير الإخوانى، اللى اتخبط فى دماغه وفكر يُقيل د. إيناس عبدالدايم من منصبها كمدير لدار الأوبرا المصرية، اللى باحب اسميها «دولة الأوبرا المصرية»، والسيدة الجميلة دى مش بس عازفة فلوت عالمية رائعة، ومش بس مديرة ناجحة جدا لدولة الأوبرا المصرية العظيمة، لكنها كمان سيدة مثقفة جدًّا ووطنية جدًّا، وفنانة جدًّا، عشان كده انتفض كل مثقفى مصر غضبًا على هذا القرار الإخوانى الأحمق، وقررنا إحنا اللى نُقيل الوزير الإخوانى اللى فكّر يستبدل بفنانة عظيمة زى د. إيناس، حد من الإخوان عشان يخرب دار الأوبرا زى ما كانوا بيخربوا أى مكان بيقع فى إيديهم.
وقتها كتبت مقالا شكرت فيه الوزير الإخوانى ده عشان قراره الغبى ده فجّر غضب المثقفين. وده اللى أعطانى شبه يقين أن أيام الإخوان فى حكم مصر بقت معدودة، قلت فى المقال: «أهلا بكم فى عشّ الدبابير، موعد رحيلكم قد حان أيها الإخوان»، وبالفعل، استمر اعتصامنا شهرًا ويزيد، قررنا، نحن المثقفين، ألا نبرح موقعنا فى مقر الوزارة، حتى لو أُقيل الوزير الإخوانى، لماذا؟ لأننا قررنا أن يلتحم اعتصامُ المثقفين بثورة الشعب المصرى المرتقبة فى اليوم المعهود المشهود، 30 يونيو، الذى سيخرج فيه الشعب كاملا، بكل طوائفه وانتماءاته السياسية والعقدية والفكرية، حاملين الكروت الحمراء لإسقاط محمد مرسى العياط، مندوب جماعة الإخوان الإرهابية فى مسلسل هدم مصر الذى بدأوه عام 1928.
لم تكن ثورتنا ضد محمد مرسى كرئيس لمصر، وفقط، فأنا أحد الذين لم نره رئيسًا لمصر فى يوم من الأيام، ولم أُلقّبه أبدًا بلقب «الرئيس» لا فى مقال ولا فى لقاء تليفزيونى ولا فى تصريح أو حوار صحفى، ولا فى جلسات الأقارب والأصدقاء، إنما كانت ثورتنا ضد فكرة تقويض مصر بجعلها دولة دينية، ضد إسقاط مصر فكريًّا وثقافيًّا ومجتمعيًّا، كانت ثورتنا ضد الدستور الإخوانى الوهابى الذى كتبه سلفيون غُلاة وإخوانيون خونة، كانت ثورتنا ضد تشويه التعليم واعوجاج القيم وتدنيس تاريخ مصر، كانت ثورتنا ضد أفكار بشر لم يُقدّروا مكانة مصر الحضارية العريقة، ولا قرأوا تاريخها، ومن ثم لم ينجحوا فى حبّها، وإن انتموا إليها بالميلاد أو بالعرق أو ببطاقة الرقم القومى، كانت ثورتنا ضد تقويض اقتصاد مصر لصالح انتفاخ جيوب وأخزنة أسلحة ميليشيات الإخوان داخل مصر وخارجها، كانت ثورتنا ضد تفتيت النسيج الوطنى المصرى وتقسيمه شرائحَ وشِيعًا وطوائف وعقائد ومذهبياتٍ ومللا ونِحلاً وفرقًا متناحرة على أسس فكرية أو عَقَدية أو طائفية، كانت ثورتنا ضد الفقر الروحى والعِوَز الأخلاقى، والانحطاط القيمى، كانت ثورتنا ضدّ إهانة المرأة والطفولة والجمال.
كانت ثورتنا ضد فكرة قيام أحزاب على أسس دينية تشطر الشعب وتمزّق نسيجة، كانت ثورتنا ضد «حزب النور» الذى كان ومازال وسوف يظل يُسمّم عقول البسطاء بأفكار تنأى عن منظومة الجمال والعدل، كانت ثورتنا ضد الفساد والسرقة واغتصاب الحقوق وحرمان الإنسان المصرى من حق الحياة بكرامة وحرية، كانت ثورتنا ضد إهدار دم الشهداء الذين سقطوا فى ثورتين آمّنا بهما وأخرجتانا من بيوتنا ببراءة من أجل إنقاذ مصر من الطغيان والفاشية والتجهيل العمدى على يد من حكموها، كانت ثورتنا بالأساس ضد الجهل، لأن الجهل هو عدو الشعوب التاريخى الذى يهدم المجتمعات ويحوّلها إلى قطعان من السوقة الحوشيين وينأى بها عن ركب الحضارة والتحضر والسمو، كانت ثورتنا ضد صنّاع البغض والقبح، أعداء الحياة خصوم الحق والخير والجمال.
وأتى الكارتُ الأحمر بثماره فى طرد الإخوان من حلبة الحكم المباشر، لكن شيئًا من ظلالهم مازال يرعى فى جسد مصر يُعرقل التعافى والشفاء، ومازال أمامنا جهدٌ هائل وعملٌ دءوب وصبرٌ ومثابرة من أجل تحقيق ما تستحقه مصرُ من السمو والتحضر.