فى يوليو من كل عام يعود الجدل البيزنطى، حول ثورة 23 يوليو وعبدالناصر، اللافت للنظر أنه بالرغم من مرور 65 عاما على 23 يوليو، وأكثر من 47 عاما على رحيل جمال عبدالناصر، تقف المناقشات عند نفس النقطة، من دون أن نغادرها، ونحاكم الماضى بقوانين الحاضر، وفى نفس الوقت يظل النقاش عند العداء أو التأييد، من دون محاولة لكتابة هادئة للتاريخ بشكل يبتعد عن التعصب مع أو ضد، وقد كان عبدالناصر ابن زمانه وعصره، وكان العالم مقسوما بين أقطاب، والاشتراكية خيارا لدول ومجتمعات خارجة لتوها من الاستعمار، وحتى السياسات الاقتصادية والملكية العامة للخدمات، والمؤسسات أمرا سائدا حتى فى دول أوروبا العريقة، قبل أن تلتحق بقطارات الخصخصة.
الجدل حول الثورة والملكية ينحصر بين طرفى نقيض، حيث نرى من يتحدث عن العهد الملكى بوصفه كان وضعا مثاليا، ولا يلتفت هؤلاء إلى الفقر والفوارق الطبقية، فلم يكن العهد الملكى جنة، وحتى حزب الوفد الذى كان يمثل الأغلبية الشعبية، لم يحكم سوى عدة سنوات، وكانت هناك أصوات تطالب بعدالة، وأيضا كان هناك اقتصاديون يطالبون بتوسيع مجانية التعليم وتمصير الصناعة، مثل طلعت حرب وطه حسين. وهى مطالب يرى مؤيدو ثورة 23 يوليو أنه تحقق الكثير منها، بينما يرى خصومه أنه فشل بشكل تام، ويصورون أن العهد الملكى كان مثاليا، بينما شهادات كثيرة تؤكد أن العهد الملكى لم يكن جنة.
فى نفس الوقت، فإن النظر إلى جمال عبدالناصر يفترض أن يكون من زواياه المختلفة، وبقوانين عصره، وهو بالطبع عصر لم يخل من أخطاء، لعل من أهمها التعثر فى بناء نظام سياسى تعددى قادر على الاستمرار.
من زاوية المصلحة، فإن الطبقة الوسطى الصغيرة والمتوسطة والفلاحين والعمال فى مصر تغيرت حياتهم، وأصبح لدى أبناء الفقراء فرصة الصعود الاجتماعى بالتعليم والتقدم، ومن تفوق منهم حصل على مكانة اجتماعية نقلته اجتماعيا إلى القضاء والجامعة والجيش والبوليس، لكن من المفارقات أن نفس الفئات التى استفادت من المجانية وتكافؤ الفرص هم أنفسهم الذين ورثوا أبناءهم مناصبهم، وأوقفوا تكافؤ الفرص، ومنعوها عمن هم فى نفس ظروفهم، ولا يمكن أن تكون ثورة يوليو هى المسؤولة عن هذا، وإنما المسؤول هم الذين تولوا السلطة ولم يحافظوا على الفرص التى حصلوا عليها.
نفس الأمر فيما يتعلق بتدهور التعليم والعلاج، الذى جرى فى العهود التالية، فقد كانت أعداد المدارس والمستشفيات كافية لأعداد المواطنين وقتها، وكان التعليم والعلاج متاحا بشكل مناسب، لكن كان السكان 25 مليونا، وتوقفت التنمية فى التعليم والصحة طوال عهود، بينما تضاعفت أعداد السكان.
وكل هذا مجرد أمثلة تحتاج إلى مناقشات هادئة، بعيدا عن التعصب والمناقشات البيزنطية، تدور حول الماضى، وليس فيها كاسب وخاسر.