انتصرت الرؤية المصرية فى الأزمة السورية، لم تكن ضد بشار ولا معه، ولكن مع الشعب السورى وجيشه الصامد، ولولاه لاختفت سوريا من على الخريطة.. لاموا مصر لرفضها قرارات العقوبات فى مجلس الأمن، ولعلهم أدركوا الآن أنها امتنعت عن الموافقة، حتى تزيد معاناة الشعب السورى، وتعطل مفاوضات جنيف لإقرار التسوية السلمية، فالسلام لن يعم سوريا بإضعاف بشار، والسوريون لن ينعموا بالحياة إلا إذا سكتت المدافع، وقرارات مجلس الأمن ظاهرها الرحمة وباطنها العذاب، وتعود بالقضية من جديد إلى ما قبل نقطة الصفر.
عارضت مصر أن يلقى بشار نفس مصير صدام حسين بقرارات أممية ظالمة، تستند إلى «استنتاجات» أعدتها لجان تحقيق تابعة للأمم المتحدة ومنظمة حظر الأسلحة الكيميائية، تحمّل دمشق المسؤولية عن هجمات باستخدام الكيماوى، ضد المدنيين، لأنها تغفل الشهادات الأخرى باستخدام داعش ومنظمات إسلامية للكيماوى، خصوصا بعد أن أشرف على تطويرها سليمان العفرى، القيادى البارز فى جيش الرئيس العراقى صدام حسين، وأحد مسؤولى هيئة التصنيع العسكرى، وأعلن انضمامه للتنظيم، وحقق نتائج مخيفة فى هذا النوع من الأسلحة.
مصر امتنعت عن أن تكون شريكا فى قرارات أممية تكيل بمكيالين، وتحقق مصالح الدول الأجنبية الموجودة فى المستنقع السورى، وتنفذ نفس سيناريو تدمير العراق، بقرارات زعمت امتلاك صدام حسين لأسلحة نووية وكيماوية، وكانت ذريعة للحرب ضد العراق وقتل شعبه وتدمير بنيته الأساسية، ثم اتضح أنها ملفقة ومستوحاة من أجهزة المخابرات الغربية، حصلوا عليها من خونة عراقيين يعملون لحساب تلك الأجهزة.
هل نسينا وزير الخارجية الأمريكى الأسبق، كولن باول، وهو يستعرض صورا بالأقمار الصناعية فى مجلس الأمن، ويشير بعصاه إلى أشياء صغيرة تتحرك كالنمل، ويؤكد أنها أسلحة صدام الكيماوية، وهى تتحرك من مكان لمكان فى لوريات، هروبا من المفتشين الدوليين، وصدر قرار بالحرب ضد العراق، وفتشوا فى كل شبر بعد الغزو، ولم يعثروا على شىء، ثم قالوا «آسفين» اعتمدنا على تقارير مزيفة.
مصر لم تلوث أيديها بدماء الشعب السورى، ولم يتغير موقفها الداعى إلى التسوية السياسية، وإقرار حق الشعب السورى فى تقرير مصيره وانتخاب حكامه، وأن تتضافر الجهود الدولية للقضاء على الإرهاب، أما القرارات الأممية المشبوهة التى تزرع مزيدا من الألغام، فلا شأن لها بها.
مصر لم تقبل أن تكون طرفا فى حرب دينية أشعلها الغرب لحرق الشرق، ورفضت الدعوة الباغية للجهاد فى سوريا، التى أطلقها الرئيس المعزول من استاد القاهرة، لأنها حرب لا تعرف من أطلق الرصاصة الأولى فيها، ولا من يطلق الرصاصة الأخيرة، والمصريون الذين تعايشوا مع بعضهم فى محبة ووئام وسلام، لا يمكن أن يقبلوا فتنة تجعلهم يتقاتلون ويتناحرون، سواء مع أبناء دينهم، أو مع شركائهم فى الوطن، وما لا نقبله على أنفسنا لا نقبله على الآخرين.
حسم المصريون منذ زمن قضية الوحدة الوطنية، وارتضوا أن تكون علاقتهم بشركاء الوطن الأقباط على قاعدة المواطنة والمساواة فى الحقوق والواجبات، وكان المسمار الذى ارتد لنعش الإخوان هو محاولتهم إشعال الصراع الطائفى والانتقاص من حقوق الأقباط، وخاب سعيهم لافتعال معارك تشق وحدة الصف، وفوجئوا أن مسلمى مصر هم أول المدافعين عن الأقباط، وأن الأقباط فى وقت المحنة لم يستقووا بالخارج، وإنما بأحضان الوطن، وأصبح العدو المشترك هو جماعة الإخوان وأهلها وعشيرتها.
وحسم المصريون منذ دخول الإسلام مصر قضية الصراع المذهبى، مسلمون تكتسى ممارستهم للشعائر بالسماحة والهدوء وليس العنف والقسوة، ولما حاول مرسى وجماعته استنساخ الصراع السنى الشيعى فى مصر، اصطدم بحائط صد قوى، فلن تكون مصر عراقا ممزقا بين سنته وشيعته، ولن تصبح لبنانا يظهر فيه محمد بديع فى هيئة حسن نصرالله، ولم يفهم الإخوان حتى الآن لماذا حققوا رقما قياسيا من الكراهية، رغم أن حكمهم لم يستمر أكثر من عام، ولا لماذا خرج المصريون بالملايين فى 30 يونيو، وهم مستعدون للتضحية بأرواحهم حتى يستردوا بلدهم، ولا لماذا كان الشعب مطمئنا أن الجيش سوف يتدخل فى الوقت المناسب؟
لم يفهم الإخوان «سر مصر»، «فى لحظات الخطر يصبح المصريون روحا واحدة فى جسد واحد»، وأنهم أصبحوا الخطر الذى يرفضه الجسد المصرى، لأنهم أرادوا أن يستبدلوا وجه مصر المتسامح بوجوههم الكئيبة، وقوتها الناعمة العامرة بالثقافة والفنون والآداب، بثقافتهم الخشنة المزودة بالدفوف والسيوف والخرطوش، أرادوا أن ينشأوا مصر إخوانية على أنقاض مصر الحقيقية، وانقلبوا من الكمون والاستكانة إلى الطغيان والجبروت، وتحول طائر النهضة الذى بشر به مرسى إلى غراب ناعق، وأصبحت أنهار العسل التى وعد بها العريان خلا وملحا، وانكشف الغطاء إيذانا بالزحف العظيم فى 30 يونيو.
ثقافة مصر التى خاف المصريون عليها من الإخوان، هى عصارة وعى أدبائها العظام، الذين يتجاوز عددهم سكان قطر، وعندنا أيضا احتياطى الذهب، أم كلثوم وعبدالوهاب وعبدالحليم والسنباطى وعبدالمطلب ومحمد قنديل، وطابور طويل من عظماء الفن، الذين يتجاوز عددهم أعضاء الإخوان وتنظيماتهم المتطرفة، لسنا أمة مكفهرة ولا شعبا متجهما، وكان صعبا أن تركب «تركيبة» الإخوان الانتقامية، على المزاج المصرى المتسامح.
لم تنطل مظاهر «الإسلام الشكلى» التى جاء بها الإخوان، على شعب يعشق بفطرته الأديان، وفوجئوا بـ«إسلام حقيقى» يتسلح به المصريون، ويستحيل أن تزايد عليهم.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة