«وجاهدنا، نحن المصريين، للحاق بركب التقدم، وقدمنا الشهداء والتضحيات، فى العديد من الهبات والانتفاضات والثورات، حتى انتصر جيشنا الوطنى للإرادة الشعبية الجارفة فى كل من ثورتى «25 يناير - 30 يونيو» اللتين نادتا بالعيش بحرية وكرامة إنسانية تحت ظلال العدالة الاجتماعية، واستعادتا للوطن إرادته المستقلة، وكل من ثورتى «25 يناير - 30 يونيو»، فريدة بين الثورات الكبرى فى تاريخ الإنسانية، بكثافة المشاركة الشعبية التى قدرت بعشرات الملايين، وبدور بارز لشباب متطلع لمستقبل مشرق، وبتجاوز الجماهير للطبقات والأيديولوجيات نحو آفاق وطنية وإنسانية أكثر رحابة، وبحماية جيش الشعب للإرادة الشعبية، كل منهما إشارة وبشارة، إشارة إلى ماضٍ ما زال حاضراً، وبشارة بمستقبل تتطلع إليه الإنسانية كلها».
بتلك السطور الرائعة، وُصفت ثورة الخامس والعشرين من يناير، فى ديباجة الدستور الذى اُستفتى عليه، من ملايين المصريين الذين أيدوه، بتفاؤل ملأ أعينهم، بلمعان الأمل الذى داعب أخلادهم، فى غد نرى فيه وطننا، ينعم بالخير والسلام والحرية، فمنحوه مشروعية جمعية، وحصانة قانونية، فلا يجوز انتهاكه أو ازدراؤه.
ديباجة الدستور جزء لا يتجزأ منه، فدائماً ما تحمل ديباجات الدساتير، مضامين عن القيم الإنسانية، ولمحات تاريخية، فيها إشارة للأوضاع السياسية، التى أدت إلى وجود هذا الدستور، فديباجة دستورنا تؤكد روعة وعبقرية ما حدث فى 25 يناير2011م، وما بعدها فى 30 يونيو 2013م، ودور الجيش فى الانحياز، لتلك الانتفاضات الشعبية.
الدستور.. لفظ معرب من الفارسية وهو مركب من مقطعين، «دَست» بمعنى قاعدة، و«ور»، «بمعنى صاحب، فيكون المعنى صاحب القاعدة، ليس مهما أن يكون أصل الكلمة فارسيا أو عربيا أو إفرنجيا، المهم أن هذا اللفظ هو لوثيقة تحدد مصائر الأوطان، ومآلات الشعوب، فقد دفعنا ثمناً باهظاً من الدماء، من أجل أن نسقط دستور 71، ومن بعده دستور الإخوان، لنحظى بدستور جديد يقيم دولة، لا نموت فيها من الفقر المدقع، ولا نُذل فيها من بطش الحكام، دولة لا يكون أرخص ما فيها هو الإنسان، فمصر دولة عظيمة لديها كل المقومات، لأن تصبح كبيرة، فكل ما تحتاجه هو لحظة بداية تستطيع من خلالها إعادة بناء مؤسساتها، وخلق جو عام فى المجتمع يظهر من خلاله الكفاءات البشرية الكثيرة على كل الأصعدة التى جُرفت على مدى عشرات السنوات من الحكم الديكتاتورى، ليخرج إلى النور ظهير شعبى قادر على وضع مشروع وطنى شامل، مشروع نهضة حقيقى تصل به مصر إلى عنان السماء.
الدستور هو العقد الاجتماعى بين الحاكم والمحكوم، الوثيقة التى تمثل انعكاسا لتجارب الشعوب لذلك دائماً ما تدور حوله، المعركة السياسية والحروب الفكرية، لأنه محدد السلطات، ومقرر أنظمة الحكم، فقد خاضت مصر عبر تاريخها معارك كثيرة تتعلق بالدستور، فهى صاحبة تاريخ عريق فى الدساتير، بدأ مع إصدار محمد على باشا «اللائحة الأساسية للمجلس العالى» فى عام 1825 ثم أتبعها فى عام 1837 بقانون «السياستنامة»، وخلال حكم الخديوى إسماعيل صدرت فى عام 1866 لائحة تأسيس مجلس شورى النواب، وفى مطلع عام 1882 صدرت «اللائحة الأساسية» الخاصة بانتخاب أعضاء مجلس النواب، إلا أن أول دستور كامل شهدته مصر كان عام 1882 فى عهد الخديوى توفيق، لكن الاحتلال الإنجليزى قام سريعاً بإلغائه ليبدأ المصريون نضالاً طويلاً للحصول على دستور للبلاد، حتى شهدت مصر فى عام 1923 صدور أشهر دساتيرها الذى ظل معمولاً به، حتى قيام ثورة يوليو عام 1952 حيث ألغى هذا الدستور لتحل محله إعلانات دستورية، عمل بها حتى عام 1956 ومع بدايات حكم السادات صدر دستور عام 1971 الذى ظل معمولاً به حتى إسقاطه بقيام ثورة 25 يناير، ومن بعده دستور الإخوان، الذى أسقطته ثورة 30 يونيو، لنحظى بدستور جديد تجسيداً لكبرياء وطنى مستحق، طالما سعى له المصريون على مدى عقود طويلة من استعمار الغزاة وفساد الولاة.
لتبزغ فى الفترة الأخيرة مطالبات بتعديل الدستور، فى ظل رفض أطراف أخرى لأى تعديل يمس الدستور، وبين هذا وذاك، أرى أن الحاجة لتعديل الدستور من عدمه لا يمكن حسمها فى الوقت الحالى بأى شكل من الأشكال، فنحن بصدد تجربة ديمقراطية وليدة، فلابد من استكمال تجربة الدستور على أكمل وجه فى قياس العلاقة بين السلطات، وحجم صلاحيات كل سلطة، والعلاقة فيما بين الحاكم والمحكوم، حتى نتمكن من تقييمه كما ينبغى، فالديمقراطيات المستقرة خاضت تجاربها أولاً قبل الحكم على دساتيرها الحالية، والتعديل فيها للوصول إلى أفضل شكل يلائمها من أنظمة الحكم المتعددة، فبناء على تجارب دامت عقودا طويلة استقرت أمريكا على النظام الرئاسى، وسارت فرنسا على النظام شبه الرئاسى، وأصبحت الهند دولة نظامها برلمانى.
فمصر وفق الدستور الحالى نظامها شبه رئاسى، حيث يقتسم البرلمان مع الرئيس بعض الصلاحيات المتعلقة بتشكيل الحكومة، ورسم السياسات العامة للدولة، فنحن نحتاج لمزيد من الوقت فى ممارسة الدستور، وتقوية الحياة الحزبية، وخوض التجربة فى العلاقة بين الرئيس والحكومة والبرلمان والقضاء، لنصل جميعاً فى النهاية لإجابة عن السؤال الحائر، هل نحتاج لتعديل الدستور، من منطلق وطنى بحت، ووفق ممارسة واقعية، وكفيلة لتحديد الأنسب لمصر فإن حالة الحوار المجتمعى القائمة حالياً حول محتوى الدستور أمر صحى جداً، ويجب أن يظل هذا الحوار مستمراً بالتوازى مع خوض التجربة لنصل فى النهاية إلى ما هو أفضل لمصر، فـ«الدساتير هى انعكاس لتجارب الشعوب»، والحوار القائم لا بد أن يبلور حدا أدنى من التوافق الذى لن يخلو من الاختلاف البشرى الفطرى حول طبائع الأمور، دونما أن يتحول إلى لغم يشعل به المتربصون لهيب الفتنة المجتمعية، وتحويل المسألة إلى معسكرات متناحرة، مع وضد.