لم أشك للحظة أن إيطاليا ستعيد سفيرها للقاهرة مرة أخرى مهما طال الوقت، وأن الأمر لن يكون مرتبطًا بنتائج التحقيقات المشتركة بين البلدين فى واقعة اختفاء ومقتل الباحث الإيطالى جوليو ريجينى، خاصة أن روما تدرك جيدًا أن قرارها باستدعاء سفيرها من مصر قبل عام كان قرارًا متسرعًا، وجاء استجابة لحملة ضغط داخلية، وارتبطت بوضع صعب كانت تواجهه الحكومة الإيطالية، فاضطرت إلى اتخاذ قرارها غير المبرر، فى محاولة منها لكسب جولة أمام المعارضة التى اشتد حصارها للحكومة هناك.
منذ البداية وإيطاليا، حكومة وبرلمانًا وشعبًا أيضًا، يدركون حقيقة أن الحكومة المصرية ليست متورطة فى واقعة ريجينى، وأن هناك غموضًا يكتنف حادث اختفاء الباحث الإيطالى فى شوارع القاهرة، قبل أن يتم العثور على جثته فى مكان قريب من منطقة السادس من أكتوبر، فالشرطة المصرية ليست بالغباء الذى يجعلها تعذب الباحث الإيطالى، ثم تلقى بجثمانه فى الشوارع، وهو السيناريو الذى حاول الإعلام الدولى الترويج له، للأسف الشديد بمساعدة من بعض إعلامنا ووسائل التواصل الاجتماع التى نسجت سيناريوهات من خيال رواد التواصل الاجتماعى، وكلها سيناريوهات تسير فى طريق واحد، وهو تحميل الداخلية المصرية مسؤولية مقتل ريجينى، وهو ما اعتمدت عليه الصحافة الإيطالية فى الضغط على الحكومة الإيطالية، ودفعتها إلى اتخاذ مواقف أكثر تشددًا تجاه الحكومة المصرية.
لكن يحسب للدولة المصرية أنها تعاملت مع هذه الأزمة باحترافية شديدة، بداية من التعليقات الرسمية، وصولًا إلى التركيز على أن القضية جنائية فى الأساس، وفى يد النيابة العامة المصرية، وليس من مصلحة مصر التستر على نتائج التحقيقات مهما كانت.
وكانت بالفعل النيابة العامة والنائب العام المصرى، المستشار نبيل صادق، على قدر المسؤولية، واستطاعوا التعامل بحكمة شديدة مع هذا الملف، سواء بفتح قنوات اتصال مباشرة مع الجانب الإيطالى، أو بالزيارات التى قام بها النائب العام إلى روما، لإطلاع نظيره الإيطالى على نتائج التحقيقات، مع الأخذ فى الاعتبار أن هناك حدودًا لما يمكن أن تقدمه مصر، وهو ما استوعبته إيطاليا جيدًا، إلى أن وصلنا إلى مرحلة مهمة اعتمدت على بناء جدار من الثقة بين الجانبين، المصرى والإيطالى، استطاع أن يقف أمام أى محاولة لتوتير العلاقة بين البلدين أو إفسادها.
كنا جميعًا ندرك أن الحكومة الإيطالية كانت فى موقف خطير، وهو ما دفعها لاتخاذ موقف غريب باستدعاء سفيرها من القاهرة، لذلك كنا نتوقع أن تنتهى هذه السحابة سريعًا، خاصة أن جانبًا مهمًا من المجتمع المدنى الإيطالى كان يدرك هذه الحقيقة جيدًا، حتى فى ظل محاولات بعض الأطراف الإقليمية والدولية استغلال هذا الحادث لتوتير العلاقة بين مصر وإيطاليا، خاصة أن إيطاليا كانت من أوائل الدول الأوروبية تجاوبًا مع ثورة 30 يونيو، كما أن شركاتها رأت فى مصر مناخًا جاذبًا للاستثمار، فضلًا عن التوافق المصرى الإيطالى تجاه الملف الليبى، وهو ما أغضب البعض حولنا، ممن يعادون ثورة 30 يونيو، فاستخدموا أذرعهم الإعلامية والسياسية لمحاصرة مصر فى أوروبا، وتحويل قضية ريجينى إلى مظلومية جديدة ضد مصر.
وكانت منظمة العفو الدولية أول ذراع يتم استخدامه ضد مصر، فهذه المنظمة المشبوهة كانت أول من حرض أسرة ريجينى وعددًا من نواب البرلمان الإيطالى على تنظيم وقفات احتجاجية أمام السفارة المصرية فى روما، ودعوة الاتحاد الأوروبى إلى اتخاذ موقف ضد الحكومة المصرية، وغيرها من الأمور التى كانت تحاول من خلالها المنظمة المشبوهة القيام بها، تنفيذًا لما كان يطلب منها من ممولى المنظمة، إلى أن تكشفت الأمور وظهرت خفايا المؤامرة.
نعم المؤامرة التى كشفتها وسائل إعلام إيطالية، وأكدت خلالها أن ريجينى بدأ حياته البحثية بالدراسة فى جامعة «كامبريدج» البريطانية، ثم جاء إلى مصر، لدراسة الصراعات العمالية وتأثيرها، وكان يكتب مطالب العمال تحت اسم مستعار، وألمحت بعض وسائل الإعلام إلى أنه كان يعمل على إعداد بحث أمنى وليس علميًا، وهو ما دفع بعض الإعلاميين الإيطاليين للتشكيك فى رواية تعرضه للتعذيب على يد الشرطة المصرية، وأكدوا أن الجانب الإيطالى ركز على الإشارة بالاتهامات للجانب المصرى، دون أن يلتفت لحقيقة مهمة، هى أن موضوع ريجينى قد يكون أكبر من فكرة تعذيبه، وأن هناك احتمالية لتورط أجهزة مخابرات غربية فى عملية اختفاء ومقتل الباحث الإيطالى.
اليوم وبعد أن أنهت الحكومة الإيطالية الوضع الشاذ بإعلانها إعادة سفيرها للقاهرة، وهو ما ردت عليه مصر بالإعلان عن إرسال اسم السفير هشام بدر كسفير جديد لمصر فى إيطاليا، نكون بدأنا صفحة جديدة فى العلاقات تقوم على التفاهم المشترك، وكلى ثقة فى أن سفير مصر الجديد بما يملكه من خبرة دبلوماسية طويلة سيساعد فى عودة العلاقات المصرية الإيطالية إلى المسار الذى تستحقه.