على الرغم من أن مصر تعتبر شريكًا تجاريًا رئيسيًا لألمانيا فى العالم العربي، ويأتى قبلها فقط الجزائر وليبيا والسعودية، فالبضائع التى تصدرها مصر لألمانيا تصل قيمتها إلى حوالى 1.7 مليار يورو؛ وهو مبلغ لا يقل عما تقدمه الدول النفطية المذكورة آنفاً، مع ذلك لم تستوعب ألمانيا مطالبة مصر بتسليم الإرهابى الإخوانى عبد الرحمن عز، بعد إلقاء القبض عليه فى إحدى مطاراتها، وهو مايشير بالضرورة إلى ازدواجية المعايير فى مواجهة الإرهاب الدولي، فبحسب تعبير الكاتب الصحفى خالد صلاح، رئيس مجلس إدارة ورئيس تحرير "اليوم السابع"، إن عدم إفراج السلطات الألمانية عن الإرهابى الهارب عبد الرحمن عز، رغم تقديم الخارجية المصرية مذكرة رسمية تطالب بتسليمه نظراً للجرائم التى ارتكبها بمصر، كان متوقعاً، موضحاً أن الأوروبيين مازال لديهم "لبس" فيما يتعلق بحقوق الإنسان وتطبيق القانون.
وهو ما يأتى فى الوقت الذى يشعر فيه المصريون بأن الألمان لديهم اهتمام كبير بثقافتهم، فهذه الدولة الشمال إفريقية بأجوائها الشرقية وحضارتها الفرعونية ثم الإسلامية، تعتبر واحة يشتاق لها الألمان، فأكثر من مليون سائح يسافرون كل عام إلى أرض النيل، وحتى أولئك الذين لا يسافرون إلى مصر، يريدون أن يكونوا قريبين من الثقافة المصرية، لذا وجدنا المتحف الجديد فى برلين الذى يضم تمثال "نفرتيتي"، الذى يُعدّ واحداً من أكثر المتاحف التى يقبل عليها الزوار فى ألمانيا يومياً، إضافة للحضور القوى للمؤسسات الثقافية الألمانية فى مصر، فقد بدا أن اليوم الذى تم فيه القبض على "عز" كاشفاً - على حد تعبير خالد صلاح - فى تعامل الأوروبيين مع الإرهابيين، والمشكلة الكبرى فى رؤيتهم لهم تتلخص فى أن الاتحاد الأوروبى لديه عقيدة تربية الأفاعى والعقارب، فالمدعو "عز" يحرض على القتل والفتنة داخل مصر، ويعلن ذلك صراحة على صفحته عبر مواقع التواصل الاجتماعى، ورغم ذلك فالعقل الأوروبى لم يستيقظ ولا يتنبه لخطورة مثل هذه العناصر الإرهابية الخطرة".
لم يدرك الألمان حقيقة أن مصر تعتبر الدولة المحركة للتغيرات فى المنطقة العربية، ولن تنجح التغييرات فى المنطقة إلا إذا نجحت فى مصر، لأنها أكبر الدول العربية من حيث عدد السكان؛ فضلا عن كونها بلدا ذا ثقل كبير من الناحيتين الاقتصادية والعسكرية، وتأثير واسع من الناحيتين الثقافية والسياسية فى العالم العربي، كما تتمتع بدور ثقافى رائد بالنسبة لجيرانها، ناهيك عن تحملها مسئولية التصدى للإرهاب الدولى عن العالم كله وليس الداخل المصرى وحده، كما تجلى ذلك فى إنشاء "المجلس الأعلى لمكافحة الإرهاب والتطرف" والذى يختص بإقرار استراتيجية وطنية شاملة لمواجهة الإرهاب والتطرف داخليا وخارجيا، والتنسيق مع المؤسسات الدينية والأجهزة الأمنية لتمكين الخطاب الدينى الوسطى المعتدل ونشر مفاهيم الدين الصحيح فى مواجهة الخطاب المتشدد بكافة صوره، ووضع خطط لإتاحة فرص عمل بمناطق التطرف، ودراسة أحكام التشريعات المتعلقة بمواجهة الإرهاب داخليا وخارجيا، واقتراح تعديل التشريعات القائمة، لمواجهة أوجه القصور فى الإجراءات وصولا إلى العدالة الناجزة، والارتقاء بمنظومة التنسيق والتعاون بين كافة الأجهزة الأمنية والسياسية مع المجتمع الدولي، خاصة دول الجوار والسعى لإنشاء كيان إقليمى خاص بين مصر والدول العربية يتولى التنسيق مع الأجهزة المعنية بمكافحة الإرهاب والجريمة المنظمة.
إخلاء سبيل الإخوانى الهارب، يفتح الباب للتساؤل حول دوافع ومبررات السلطات الألمانية للإقدام على تلك الخطوة، وسط تكهنات بتدخل قيادات جماعة الإخوان الإرهابية وعدد من المنظمات الحقوقية الدولية التابعة لها، للضغط على برلين للإفراج الفورى عنه رغم مطالبات السفارة المصرية بتسليمه للسلطات المصرية لتنفيذ الأحكام القضائية الصادرة بحقه، وهو حق أصيل لمصر بموجب الاتفاقات الدولية، فهناك اتفاقية لتبادل المطلوبين بين مصر وألمانيا وكان يجب على السلطات الألمانية احترامها، وعبد الرحمن عز على قائمة المطلوبين، وهذا يعد خرقا صريحا للاتفاقية، بل يعتبر تعاونًا من الحكومة الألمانية مع الكيان الإرهابى المسمى بجماعة الإخوان، خاصة أن "عز" مجرم وقاتل بحكم محكمة، كما هو ثابت فى سجلات القضاء المصري.
وهنا تجدر الإشارة إلى أن سجل عبد الرحمن عز الإجرامى يشير إلى خطورته باعتباره أحد المشاركين فى تأسيس حركة 6 أبريل عام 2008، ومع قيام ثورة 25 يناير بدأت الأضواء تُسلّط عليه، ومع زيادة نفوذ جماعة الإخوان الإرهابية وتولى محمد مرسى الحكم، اقترب "عز" من الجماعة عبر انضمامه لما سُمّى بـ"حركة حازمون"، وهم أتباع الإرهابى حازم صلاح أبو إسماعيل، ومنذ هذه اللحظة بدأ عبد الرحمن عز المشاركة فى أعمال العنف، فكان أحد الداعين لفض اعتصام الاتحادية، وعبر القلم الليزر "الأخضر" كان يشير إلى أماكن تواجد معارضى مرسى البارزين، ليتم اختطافهم من بين الصفوف وتعذيبهم، حسبما جاء فى تحقيقات النيابة.
وفى ديسمبر 2012، قاد عبد الرحمن عز عددا من أنصار حازم صلاح أبو إسماعيل لاقتحام مقر حزب الوفد وإحراقه، وظهرت له فيديوهات واضحة فى أثناء مشاركته فى الحدث وقيادته المجموعات التى اقتحمت مقر الحزب، ثم تمادى فى أفعاله الإجرامية عبر منصة رابعة العدوية، والتى عُرف وقتها بكلماته التى تحض على العنف، ودعوته للتوجه لمدينة الإنتاج الإعلامى وإحراقها، وبعد فض الاعتصام سرت شائعة عن مقتله فى عملية الفض، لكنها كانت مجرد غطاء للتمويه على اختفائه، بعدها ظهر على السوشيال ميديا، مهددا كل من تظاهروا ضد الإخوان فى 30 يونيو، قائلا: "أقسم بالله لنخليكم تترحموا على أيام الإخوان، بكرة تقولوا إحنا آسفين يا إخوان، بس ساعتها الإخوان نفسهم هيكونوا بيدوسوا عليكم"، ثم ذهب "عز" فى غيه بعد أن تحول إلى داعية للقتل عبر صفحات الإنترنت، فكتب مثلا محرضا على قتل الإعلامى عمرو أديب: "ألا من رجل حر يعالج رأس عمرو أديب"، وكتب فى مرة أخرى يدعو للعنف فى شوارع القاهرة بالقول: "مقاومة شعبية تشمل خلع قضبان السكك الحديدية فى كل أنحاء الجمهورية، وقضبان المترو، ووحدات التحكم بالكهرباء، والأسلاك فى الشوارع، وقطع الطرق بمتاريس، والحفر فى الشوارع وقطع الكبارى"، ولم يفته بالطبع التحريض على الأزهر الشريف، الذى وصف شيخه بـ"العلمانى المتأسلم"، والساعى لـ"صلبنة" الأزهر.
ثم كانت الكارثة فى يوليو عام 2014 التى أثارت موجة من الاستياء والانتقادات على مواقع التواصل الاجتماعى فيسبوك وتويتر، على أثر وخروجه من مصر والوصول إلى قطر، رغم القبضة الأمنية القوية الموجودة بالبلاد أنذاك، فقد استطاع "عز" بعد هروبه المفاجئ أن يتخد من قطر قاعدة للتحريض ضد مصر، وإعلان تأييده الكامل للعمليات الإرهابية، سواء فى سيناء أو غيرها، وتمادى فى كراهيته لمصر داعيا لاستهداف جنود الجيش والشرطة، ومؤيدا لعمليات الإرهابيين، وإحدى آخر تدويناته بعد حادثة استشهاد 6 جنود فى البدرشين: "أنا مش شمتان ولا فرحان، أنا زعلان لأنهم ما اتقتلوش بإيدى أنا".
أى مبررات أكثر مما مضى تطلبها السلطات الألمانية لتسليم إرهابى خطير مطلوب من جانب مصر فى هذا الوضع الحرج ، وفى ظل تحمل مسئوليتها الجسيمة التى ألقتها على عاتقها وهى تسعى إلى تنسيق المواقف العربية تجاه قضايا الإرهاب، وإقرار الخطط اللازمة لتعريف المجتمع الدولى بحقيقة التنظيم الإرهابى ودور الدول والمنظمات والحركات الداعمة للإرهاب ضد الدولة المصرية، والعمل على اتخاذ الإجراءات القانونية اللازمة ضد الأجهزة والدول الداعمة للإرهاب ضد الدولة المصرية، وتحديد محاور التطوير المطلوب بالمناهج الدراسية؛ بما يدعم مبدأ المواطنة وقبول الآخر ونبذ العنف والتطرف، ومتابعة تنفيذ إجراءات التحفظ على أموال الكيانات الإرهابية والإرهابيين ورصد التحويلات المالية للعناصر والتنظيمات الإرهابية؛ تجفيفا لمصادر تمويل التطرف والإرهاب.
إنه إذن موقف متخاذل جدا من جانب ألمانيا التى أعرب أجهزة استخباراتها الاستخبارات الداخلية فى تقرير سابق عن القلق حيال تنامى الحركة السلفية فى البلاد، حيث قال رئيس الجهاز "هانس يورغ ماسن" خلال تقديم التقرير فى مؤتمر صحفى فى برلين إن "السلفية تشكل مجموعة ذات نمو سريع جدا فى أوساط التيار الإسلامى المتشدد وهى تثير القلق الشديد"، وكانت أجهزة المراقبة كشفت أن التيار الإسلامى المتشدد فى ألمانيا ضم 42550 شخصا فى 2012، وارتفع عدد السلفيين فيه من 3800 إلى 4500 فى عام واحد، لكن يبدو أن السلطات الألمانية لاتقوى على مواجهة تلك العناصر الإجرامية، بدليل أن "ماسن" نفسه الذى أشار لخطورتها عاد قائلا: "ليس جميع السلفيين جهاديين، لكن تجدر الملاحظة إلى أن الأفراد الذين غادروا من ألمانيا إلى سوريا أو مصر للجهاد لديهم جميعا علاقات بالسلفيين، يمكن القول إن السلفية هى عبور إلزامى إلى الجهاد أو لأشخاص مستعدين لشن هجمات إرهابية"، وتابع رئيس الاستخبارات الداخلية أن رقم 42500 إسلامى متشدد "لا يعنى أنه لدينا 42500 إرهابى محتمل فى ألمانيا".
ونحن بدورنا نشير إلى أن السياسة الخاطئة لدى الألمان أدت توافد إلى ألمانيا الكثير من ذوى الفكر المتشدد والمتطرف والثقافة البالية والعفنة التى تنظر إلى كل من يخالفها بأنه كافر وملحد وعدو ولهم الحق فى قتله ونحره ونهب ماله وحلاله، هذه الثقافة التى لاتناسب القرن الحادى والعشرون، هذا القرن الذى يتصف بالرقى والتطور والتقدم، هذا القرن الذى يسعى إلى تحقيق الرفاه والسعادة لبنى البشر، كما أن هذا الفكر جامد لايمت إلى الإنسانية بشئ فهو ضد الحريات وضد الحقوق وضد كل مايمت إلى الأخلاق بشئ، هذه الثقافة وجدت قبل المئات من السنين والتى أودت بحياة الملايين من أبناء البشر ومازالت تنهك بجسد المجتعمات وتدمر البنى التحتية للمجتمع الذى تتواجد فيه وتفكك مؤسسات الدول، وبالتأكيد سيطال ألمانيا طالما تتبع سياسة إيواء الثعابين فى جعبتها.