تحركت السفينة التى تقل نابليون بونابرت وحاشيته من بولاق بالقاهرة إلى الإسكندرية فى الساعة الثالثة صباحا يوم 18 أغسطس «مثل هذا اليوم» من عام، حيث قرر القائد الفرنسى العودة إلى بلاده تاركا جنوده الذين جاؤوا تحت قيادته فى حملة لاحتلال مصر عام 1798، وحسب عبدالرحمن الرافعى فى كتابه «تاريخ الحركة القومية وتطور نظام الحكم فى مصر- الجزء الثانى» تأليف عبدالرحمن الرافعى «مكتبة الأسرة- القاهرة»، فإن نابليون اتخذ كل الوسائل ليكتم عن الناس مشروع سفره إلى فرنسا، فأشاع أنه سيذهب إلى منوف «محافظة المنوفية»، بحجة التفتيش على أحوال البلاد.
اختار «بونابرت» حاشية ترافقه فى العودة إلى فرنسا وركب مع السفينة صباح يوم 18 من بولاق، ويلفت النظر «ج.
كروستوفر هيرولد» فى كتابه «بونابرت فى مصر» ترجمة فؤاد أندراوس، ومراجعة دكتور محمد أنيس، عن «مكتبة الأسرة- القاهرة» إلى واحد من هذه الحاشية وهو رستم رضا، مملوك نابليون الشهير الذى لم يبرحه قط منذ تلك اللحظة حتى عام 1814 «يقول كروستوفر»: «كان فى التاسعة عشرة من عمره يومها «يوم مغادرة مصر» خطفه وهو صبى فى السابعة من عمره رجل يصفه فى مذكراته الطريفة «مذكرات رستم» بأنه «تاجر أطفال»، وبعد عدة خبرات أليمة جىء به من الأستانة ثم إلى القاهرة، سالكا طريق لا يمكن أن يسلكه مسافر آخر، ويتذكرها رستم: «مررنا بالمضايق الخطرة التى يعود النيل فيها إلى دخول «البحر الأسود» التى يصطدم فيها النهران فيها الواحد بالآخر»، ويضيف هيرولد: «فى القاهرة اشتراه صالح بك، وهو يومها أمير الحج فأخذه إلى مكة فى عام 1897، وفى عودة صالح علم أن الفرنسيين استولوا على مصر فقرر أن يلحق بإبراهيم بك فى سوريا».
فى سوريا ذهب صالح إلى عكا سعيا للصلح مع حاكمها «الجزار باشا» خصمه اللدود القديم، ويذكر «هيرولد»: «قدم له الجزار فنجانا من القهوة، وبعد نصف ساعة مات صالح، واتخذ رستم طريقه إلى القاهرة متخفيا فى زى فلاح، وهناك وجد» جنودا فرنسيين كثيرين، ورماة كهولا ملاح الوجوه ذوى شوارب بيضاء، وأخيرا وجد عملا فى بيت الشيخ البكرى الذى كان يشغل وظيفة كبيرة فى الإدارة المدنية، ودللته نساء البكرى، وشغف به البكرى شغفا غير طبيعى، إلى أن استهواه مملوك صغير آخر، وكانت هناك مشاحنات، فلما عاد بونابرت من سوريا فى يوليو 1799 أهداه البكرى رستم وجودا أسود فارها.
بعد هذا الإهداء بأيام قليلة قرر نابليون العودة فقرر أن يصطحب رستم معه، وحسب هيرولد: «من يومها ظل رستم وهو لا يخلع عنه زى المماليك، يخدم نابليون حارسا وتابعا وقودا، وأصبح وجهه مألوفا للناس كوجه الإمبراطور نفسه تقريبا، وقد خلد فى صورة كثيرة وهو ممتطى صهوة جواه يتبختر إلى جوار سيده، وبعد أن جمع ثروة طيبة بالإرهاب واستغلال النفوذ، ترك سيده قبيل تنازله عن العرش دون كلام ولا سلام، وتزوج فتاة فرنسية، وكتب مذكراته التى تكشف عن خادم، ساذج، أمى، حريص بلطجى».
ترك نابليون رسائل إلى أعضاء الديوان، وإلى الجيش، وإلى كليبر، يخبرهم فيها بحقيقة سفره إلى فرنسا، وأنه سيعود بعد ثلاثة أشهر مرة ثانية لاستكمال مهمته، ويصف «الرافعى» الرسالة التى تركها إلى كليبر بـ«الوثيقة عظيمة الأهمية» و«كتبها بإمعان وتفكير، وصف فيها حالة مصر السياسية وصفا دقيقا، وشرح فيها الخطة التى عهد إلى كليبر باتباعها»، والرسالة مطولة وأكثر ما يلفت النظر فيها قوله عن المشايخ: «إن من يكسب ثقة كبار المشايخ فى القاهرة يضمن ثقة الشعب المصرى، وليس بين رؤساء هذا الشعب من هم أقل خطرا من مشايخه، لأنهم قوم هيابون لم يألفوا خوض غمار القتال، على أنهم رمزا للتعصب ولو أنهم ليسوا متعصبين، فهم من هذه الوجهة يشبهون القسس»، ويقدم نصيحة أخرى ملفتة إلى كليبر: «اعتقل خمسمائة أو ستمائة من المماليك أو من رهائن العرب ومشايخ البلاد «العمد» وأرسلهم إلى فرنسا ليبقوا بها سنة أو سنتين ليروا عظمة الأمة الفرنسية ويقتبسوا عاداتنا وأخلاقنا وأفكارنا ولغتنا ويعودوا إلى مصر فينشروا هذه المقتبسات بين مواطنيهم».