خاضت مصر حروبها من أجل الحفاظ على استقلالها الوطنى وإرادتها الحرة، وفى سبيل حفاظها على أمنها القومى كانت نظرتها خارج حدودها، فهى بطبيعة موقعها وتاريخها وحضارتها لاينفع معها الانكماش، ولا يليق بها أن تبقى كغيرها، غير أنها لا تنظر خارج الحدود كدولة لها أطماع، وإنما تحفز الآخرين على التعاون من أجل المستقبل، خصوصا مع الدول التى تقع ضمن دوائرها الأمنية الثلاث، وهى الدائرة العربية، والدائرة الأفريقية، والدائرة الإسلامية، وفى هذا السياق جاءت أهمية الجولة الأخيرة للرئيس عبدالفتاح السيسى الأفريقية، وشملت تنزانيا ورواندا والجابون وتشاد.
فى كل دائرة من هذه الدوائر قدمت مصر تضحيات عظيمة من أجل أمنها القومى، وفى ذلك سأقتبس قصة مهمة غير معروفة من مقال مهم للواء دكتور سمير فرج، بعنوان «الدوائر القريبة للأمن القومى المصرى»، المنشور فى الزميلة «الأهرام» يوم الأربعاء الماضى، يقول فيها إنه خلال التخطيط لحرب أكتوبر 1973، أرادت مصر توجيه ضربة قوية وموجعة إلى إسرائيل، وهو ما دعا المخطط المصرى للتفكير فى إغلاق الملاحة فى منطقة مضيق باب المندب أمام السفن الإسرائيلية، أو السفن التى تحمل بضائع إلى إسرائيل عن طريق ميناء إيلات، فتحول الميناء إلى مدينة أشباح بدءًا من يوم 6 أكتوبر.
يواصل «فرج»: «أتذكر عودة اللواء الجمسى إلى القيادة العامة بعد أولى جلسات مباحثات الكيلو 101 «كان الجمسى رئيسًا لأركان حرب القوات المسلحة»، وكنا جميعا فى انتظاره لمعرفة ما حدث، فكان أول ما نطق به عند دخوله لمقابلة المشير أحمد إسماعيل، وزير الحربية التى صارت الدفاع فيما بعد، أن قال: «يا فندم موضوع إيلات ده وجعهم أوى، معظم مناقشاتهم على الترابيزة تدور حول فتح باب المندب»، وأضاف اللواء الجمسى: «واحنا بنركب العربيات، كانت آخر جملة قالها رئيس الوفد الإسرائيلى هارون باريف، مدير المخابرات الإسرائيلية: إوعى تنسى فتح الملاحة فى باب المندب».
يكشف فرج: «يجب تأكيد أن إغلاق مضيق باب المندب أمام الملاحة الإسرائيلية، تم بناء على خطة مصرية بالغة الدقة والسرية، حيث تم استطلاع الجزر المسيطرة على المضيق، وتم تحديد أماكن تمركز القطع البحرية المصرية التى ستغلق الملاحة، كما تم التنسيق مع الجانب اليمنى على أسلوب تقديم الخدمات اللوجستية لهذه القطع البحرية، دون إطلاع الجانب اليمنى على طبيعة العملية، أو المهمة، وإدراجها تحت اسم شركات مدنية تجارية، فتحقق لهذه العملية أكبر قدر من السرية، ولم يعلم بها الجانب الإسرائيلى إلا يوم 6 أكتوبر 1973 الساعة 12 ظهرًا، عندما أعلنت مصر إغلاق الملاحة فى باب المندب أمام السفن الإسرائيلية، وبعد حرب أكتوبر حاولت إسرائيل الوجود فى هذه الجزر بأى صورة من الصور، أو حتى بوضع نقاط للمراقبة، إلا أنها لم تفلح بفضل يقظة المخابرات المصرية».
يتحدث «فرج»عن الحالة التى شهدتها هذه المنطقة، حتى شهدت الصومال تدهورًا أمنيًا أدى إلى قيام عناصر مسلحة باعتراض السفن الدولية عند باب المندب، وظهر للمرة الأولى أسلوب القرصنة البحرية، وتحركت مصر وبعض الدول الأوروبية وأمريكا وتشكلت قوة بحرية للتصدى لهذه القرصنة بالاعتماد على القواعد الفرنسية والأمريكية فى جيبوتى، وخلال أشهر تم القضاء على هذه القرصنة.
هذه الأسرار التى يكشف عنها اللواء سمير فرج هى بالطبع صفحة مضيئة فى تاريخ العسكرية والمخابرات المصرية، وحين نؤسس لها تاريخيًا فلابد أن نربطها بذهاب الجيش المصرى إلى اليمن عام 1962، استجابة لقادة الثورة اليمنية، وتلك قصة طويلة أهم ما فيها أنها جعلت «باب المندب» عربيًا بنفوذ مصرى.