كل من عرف الراحل العظيم الكاتب المبدع محفوظ عبدالرحمن سيذكر له الكثير من المواقف النبيلة التى تؤكد على استثنائيته، ليس فى إبداعه وفقط، وإنما فى إنسانيته وأبوته وتواضعه ومواقفه، واعتزازه بقلمه وتسخيره لأجل الحق والخير والجمال، ورفضه المطلق لأى إغراءات مادية مقابل كتابة أعمال فنية تخضع لمعايير السوق.
كان يكفى فقط أن نتصل به للمرة الأولى كصحفيين، أو يتصل به آخرون من المهتمين بالشأن العام، فيسأله الصحفى فى أمر ما، أو يطلبه المهتم فى ندوة جماهيرية أو نشاط ثقافى أو اجتماعى، وحين يطمئن إلى جدية كل من يطرق بابه والتزامه الوطنى والمهنى لا يتردد أبدا فى تقديم ما يعرف، وتلبية الانتقال إلى أى مكان طالما سيقول فيه كلمته الحرة، ثم يتحول الأمر بعد ذلك إلى تقارب إنسانى، يكون فيه هو المبادر بالسؤال للاطمئنان والتشجيع، فتشعر معه أن الحياة بخير طالما يوجد فيها أمثاله من المبدعين الطيبين المتواضعين، الذين لم يتغيروا مع الأضواء وبريق الشهرة، وظلوا مخلصين لمبادئهم، وتمسكوا بكل القيم النبيلة.
إنسانية محفوظ عبدالرحمن كانت كإبداعه فى الشفافية والنبل والجمال والخير، والانحياز لكل بسطاء الناس الذين لم يتعالى عليهم أبدا، وظلوا هم همه الأساسى فى مشروعه الإبداعى، وتجلت عبقريته الإبداعية فى أنه قدم هذا الإنحياز دون صخب أيدلوجى أو سياسى.
قدم مبدعنا العظيم أعماله الدرامية التى تميزت بالجدية والعمق، والجماهيرية الواسعة، وكان من خلالها محاربا صلبا وعنيدا ودون صخب لكل الأفكار الظلامية التى تقف عائقا أمام نهضتنا وتقدمنا، وفى هذا السياق فإن أعماله الدرامية مثل «بوابة الحلوانى»، «أم كلثوم»، «ناصر 56»، «سليمان الحلبى»، «حليم»، «أهل الهوى»، «كوكب الشرق»، «الكتابة على لحم يحترق»، «سقوط غرناطة»، «عنترة» وغيرها، سيكون مخطئا من يشاهدها أو يقيمها بوصفها أعمال درامية تسبح فى التاريخ لتنقل منه حكايات للمتعة والتسلية، فالحقيقة أنها أعمال تلتقط محطات فارقة فى تاريخنا، تكشف لنا أسباب السقوط وأسرار النهوض، وتلك المسألة تحديدا كانت هما كبيرا يتنفسه مبدعنا العظيم، ولأنه كان منحازا لكل أفكار التقدم والاستقلال الوطنى ومنحازا لمشروع جمال عبدالناصر، ومهموما بعروبته ومحاربا صلبا لكل التزييف فى التاريخ، اختار أن يحارب التخلف بتنويرنا بتاريخنا، ولم يخرج عن هذه القاعدة أبدا حتى فى أعماله الدرامية التى تتناول شخصيات تاريخية تركت أثرها العظيم، حيث قدمها كقصة عصر وزمن له ما له وعليه ما عليه.
حظيت أعمال مبدعنا العظيم الراحل بجماهيرية واسعة، مما دل على صدق مبدعها، وقدرته على تقديم ما يريد دون تنازل، وأذكر أنه بعد النجاح الهائل لمسلسل أم كلثوم، تلقى عروضا من جهات مختلفة لكتابة مسلسلات على نفس نسق أم كلثوم وبالأجر الذى يحدده لكنه رفضها جميعا، وعرفت منه أنه كان من بين هذه العروض فكرة مسلسل عن فنانة «تم تقديم مسلسل عنها بالفعل»، لكنه رفض وقال للجهة التى تحدثت معه بشأنها: «مفيش حاجة فى حياتها تشد، ويمكن عمل سهرة تليفزيونية عنها مدتها ساعة على أكثر تقدير»، وظنت هذه الجهة أنه يحتاج إلى أجر أكبر، لكنه رد عليهم بحسم: «شوفوا حد غيرى»، وبقدرة قادر تم عمل مسلسل 30 حلقة عن هذه الشخصية.
هناك الكثير من الحكايات المماثلة ويعرفها كثيرون ممن تعاملوا بقرب مع الأستاذ محفوظ، وكان هو يحكى بعضها ليس من قبيل الاستعراض أو التفاخر، ولكن من باب التحريض للآخرين على التمسك بالقيم الأصيلة.
رحمه الله، ومثله لن يعوض