فى طفولتنا الممتلئة بالفرح والحزن كانت قناطر أسيوط القديمة حاضرة دائما، خاصة أنها تقع شمال قريتنا الواقعة على النيل بمسافة كبيرة تتجاوز عشرات الكيلومترات، فالقناطر دائما بهجة الذاهب لقضاء مصلحة ما فى المدينة الكبيرة فلا يكتمل يومه حتى يبدو فى عينيه الانبهار بالـ111 عينا المرصوصة والمبنية بدقة غريبة وجمال أخاذ. ومن جانب آخر فإن بواباتها الحديدية التى تمنع الماء قادرة على إنقاذ أجساد الغرقى الذين خدعهم النهر وابتلعهم ورفض أن يمنحنا جثثهم بسهولة، ينظر أحد الصيادين المشاركين فى البحث عن الغريق إلى أمه القابضة على الطين ويقول: «سنجده عند قناطر أسيوط».
بالطبع كنت أعرف منذ وقت طويل أن الدولة تعمل على مشرروع قومى فى أسيوط بإنشاء قناطر جديدة تعمل بجانب حفظ الماء على توليد الكهرباء، وهو أمر جيد لا يحتاج تعليقا خاصة أنه سيكون مفيدا لخمس محافظات كما تصرح وزارة الرى دائما، لكن السؤال الذى يطرح نفسه دائما هو ما الذى سيحدث فى مبنى القناطر القديمة؟ وكانت الإجابة الدائمة من الدولة أن القناطر القديمة سوف تتوقف عن العمل وتخرج من الخدمة وتتحول إلى كبرى يربط بين الشرق والغرب، بما يعنى أنها ستظل على شكلها ووضعها، لكن منذ أيام قليلة كان الشاعر الجميل والروائى ماهر مهران يصرخ على صفحات التواصل الاجتماعى بأنهم بدأوا هدم القناطر القديمة مع كونها أثرا من أهم آثار أسيوط.
اهتممت بالأمر وطلبت من الصديق أحمد منصور أن يتواصل مع وزارة الآثار ليعرف حقيقة الأمر، ومن جانبها حددت وزارة الآثار أن الهدم سوف يشمل 11 عينا بمساحة 130 مترا، وأن تصريحات الهدم حصلت عليها الدولة قبل دخول القناطر فى تسجيلات الآثار فى عام 2007، وأن المشروع قومى ويتطلب بعض التضحيات.
بالنسبة لنا أبناء أسيوط فإن هذه القناطر القديمة بعمرها الذى يتجاوز الـ 115 عاما التى صممها المهندس البريطانى الشهير السير وليام ويل كوكس الذى صمم وبنى سد أسوان، هى ليست مجرد حاجز للماء أو مبنى قديم وفقط، بل هى جزء من أعمار أجيال كثيرة مرت من هنا، فأسيوط سفقد الكثير من جمالها إن اختفت القناطر القديمة أو تحولت إلى جزء مبتور من أثر كان فى وقت ما استمرارا لنهضة كبرى بدأها محمد على باشا.
هذه القناطر التى ربطت الشرق بالغرب على مدى سنوات طويلة كانت شاهد عيان على كل أحداث أسيوط الطيبة وغير ذلك، هى بمثابة تأريخ للمدينة العريقة وأسواقها القديمة وطلابها وتلاميذها وجامعتها ومزارعها ومستشفياتها وناسها بوجوههم المألوفة، وللوافدين عليها الذين جاءوا لتحصيل العلم أو للبيع والشراء أو العلاج والتداوى.
لست ضد التطوير والتحديث، لكننى لا أفهم معنى الإلغاء والمحو، فالمحافظة على التاريخ بالمحافظة على المبانى القديمة يبعث فى الروح قوة ودفئا ويبعد عن التشابه الغريب، خاصة أن المبانى الحديثة لا تعتمد الجمال فى التصميم فهدفها الأول القوة والإبهار العلمى.
عدد الردود 0
بواسطة:
الشعب الاصيل
بعد 115 سنه
بعد 115 سنه مؤكد عمليات الهدم تنخر في الإنسان .. السن برضو له حكمه...