فى الدراما الروائية والسينمائية يوجد نوع معروف من الصراعات الإنسانية يعتمد على تحطيم مسلمات أساسية فى حياة البطل، فيكتشف البطل مثلا أن أباه «مش أبوه» أو أن أمه كانت شمال، أو أنه من نسل مجرمين وسفاحين وليس من سلالة البنى آدمين، وتتحول هذه المعلومة المفاجئة إلى نقطة صراع وانحراف فى حياة البطل، فينقلب حاله ويفقد الثقة فى ماضيه وحياته ويشعر بالخجل من أصوله وذاته، هذا الصراع الدرامى نعيشه جميعا الآن، فهناك خطة ممنهجة لتشويه كل تاريخ الحضارات العربية والإسلامية وإخفاء كل ما كان فيها من قوة وبريق وإبداع، وتضخيم كل ما فيها من انحرافات وانكسارات وأخطاء، رغم أن الحضارة الإسلامية مثلها مثل كل الحضارات البشرية المتفوقة حملت الكثير من الإيجابيات والسلبيات، ولكن معيار عظمتها يظهر من حجم تأثيرها على البشرية والارتقاء بعلوم البشر وفنونهم وإبداعاتهم الفلسفية والفكرية. فنحن أمام تاريخ زاهر ضم الآلاف من العلماء المسلمين الذين اكتشفوا وأسسوا العشرات من أهم علوم العالم بل شكلوا البذرة الأولى التى خرجت منها كل فروع العلم الحديث، ناهيكم عما تميزت به هذه الحضارة من أعراف وقيم وأخلاق شكلت نموذجا فريد وسط همجية اغلبية المجتمعات الإنسانية فى ذات الحين. كما أن استمرارها لأكثر من 1300 عام وسيطرتها على مساحات واسعة من العالم وانتشارها كدين وفكر وعقيدة يدل على نضوج وقوة وتنوع قلما ظهر فى حضارات أخرى، كل هذا لا نقدره الآن بل وصل بنا الحال إلى تجاهله ورفضه وسط حملة إعلامية ممتدة ومسعورة لتشويه هذه الحضارة وتكسير جذورها، وللأسف نجح هذا التيار بشكل ما فى حشد العديد من المثقفين والوجوه الإعلامية المشهورة وأصبح له تأثير على الشارع والناس، رغم أن الأساليب التى يستخدمونها فى النقد والهدم معظمها مغلوطة لا تعتمد على منهج صحيح أو منطق واضح، بل تتجاهل مبادئ التطور الإنسانى. فلا يمكننا أن نقيم الأحكام التشريعية أو الفقهية لقدماء الأئمة بدون مراعاة أحداثها التاريخية أو ظروفها السياسية والاجتماعية، لا يمكننا أن نحاكم زعامات سياسية أو عسكرية مضى عليها أكثر من ألف سنة بدون النظر إلى أحوال هذه الأزمنة واختلافها تماما عما نحن فيه الآن. رغم كل ذلك نجحت تلك الحملة فى زعزعة الثقة فى نفوس الكثيرين، خاصة أنها تواكبت مع فترة عصيبة تنهار فيها كل أحلامنا التى بنيناها على القومية العربية وتتساقط فيها الدول العربية الكبرى واحدة تلو أخرى، إما بفعل الاعتداءات الأجنبية أو الفتن الداخلية أو المؤامرات الدولية. واقع صعب وضعنا جميعا على حافة الهاوية وبدلا من أن نفكر فى وسائل لتحسين مصائرنا انشغلنا بجلد تاريخنا وحضارتنا وتكسير ثقتنا فى جذورنا الدينية والعقائدية. وبلا شك هذا مقصود ومطلوب جدا لإتمام الانهيار. لذلك يجب أن تخلو دعوة تجديد التراث من هذا الهرج، فلا يمكننا أن نقارن بين معايير عصرنا الثقافية والسلوكية والفكرية وبين عصور مضت منذ مئات السنين ونتهمهم بالجهل والظلم والعنف ونتصيد أفكارا ارتبطت بفترة تاريخية سحيقة لها أوضاعها الجغرافية والعلمية والاجتماعية البعيدة كل البعد عما نحن فيه الآن. فنسخر عما جاء بكتب التراث عن التداوى بروث أو بول الإبل والبهائم مثلا متجاهلين أن كافة البشر بمختلف بقاع الأرض فى هذه الفترة كانوا يستخدمون نفس الطريقة وكانت فعالة بقدر معين فى علاج هؤلاء البشر فلم يكونوا يحلمون بما أطلقنا عليه الطب أو علم تراكيب الدواء أو الكيمياء أو تلك العلوم التى نتداولها ونطورها كل يوم، هذا الفترة من تاريخ البشرية لم تكن تعرف فى الطب أكثر من ذلك، فلماذا نسخر من حضارتنا فى هذا الشأن رغم أنها كانت علامة فاصلة فى اكتشاف معظم العلوم الطبية والتشريحية والدوائية التى نعرفها الآن. لماذا نتجاهل ذلك التقدم وهذا الرقى وننغمس فى مخلفات الأفكار وجهالة السلوك.. وللحديث بقية.
اضف تعليق
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة
عدد الردود 0
بواسطة:
الشعب الاصيل
تحطيم الذات
العالم استفاد كثيرا من حضارتنا بينما نحن نسييء اليها بجهلنا ونهدمها بأفكارنا وسلوكياتنا المتخلفه..